موسى

 

مع ظهور الصهيونية تمَّ في اليهودية تغير غير عادي ، يكاد لا يفهم . فقد أصبح فهم اليهود للطريق الخاص بهم فهماً دنيوياً بعد أن كان فهماً دينياً . وهذا ما يحتم علينا النظر في الدور الحاسم الذي لعبه موسى سابقاً لدى اليهود المتدينين . واللافت للنظر أن اليهود الدنيويين في أيامنا الحاضرة يعتبرون حتى ذكر موسى أمراً شبه محرَّم . ويذكر كاتب هذه الأسطر بوضوح عن عشرينيات القرن الماضي أحاديث والده مع يهود أصدقاء وكذلك حديث هؤلاء فيما بينهم كيف أن كلمة " موسى " كانت ترد دون انقطاع ؛ كان موسى المرجع القاطع الذي يعودون إليه .

 

          وان أردنا أن نبحث في شخصية موسى الدينية وفي أعماله ، لوجدنا أنفسنا أمام واقع هو أن كتب موسى _ من الكتاب الثاني وحتى الخامس _ تختلف كثيراً بالنسبة للتأليف والأسلوب والشكل عن سفر التكوين . نعم ، تسمى الكتب الخمسة " الأسفار الخمسة " ، لكن درجة اختلاف سفر التكوين عن الكتب الأربعة اللاحقة يتيح ضم هذه الأخيرة إلى تاريخ الشيوخ وليس إلى سفر يشوع . ولكي يسهل علينا الكلام في الصفحات التالية سوف اسمّي الكتب من الثاني وحتى الخامس " الأسفار الأربعة " (1) فاكون بذلك قد فصلتها عن سفر التكوين فصلاً جذرياً .

 

          منذ سفر الخروج بَدَأَ الكثير من الاملاءات الفرضية التي وضعت في الحقبات اللاحقة يدخل إلى تاريخ حياة وأعمال موسى ، وقد تم ذلك ، على ما يبدو ، بعد قرون ، في عهد مملكتي إسرائيل واليهودية . ومن السهل ثبت هذه الأوامر والقواعد التي شُغِلت بدقة وتفصيل لتنظم جزئياً علاقات لم تكن موجودة على عهد موسى . وبالتزامن مع هذه الإضافات الكثيرة يلاحظ تمجيد متنامٍ لموسى يخطئ طريقه إلى حد انه يصل إلى تناقضات ظاهرة . فقد جاء في سفر الخروج : 23 /11 _ ونكتفي بهذا المثل _ " ويكلم الرب موسى وجهاً لوجه كما يكلم الرجل صاحبه " . ولكن بعد ذلك بقليل ( في الآية 20 و 23 ) يقول الله : " لا تقدر ان ترى وجهي . لأن الإنسان لا يراني ويعيش . . . ثم ارفع يدي فتنظر ورائي [ أي حينما أكون قد مررت من أمامك ] وأما وجهي فلا يُرى " .

 

          فإذا كانت الأمور على هذا الشكل ، وجب علينا أن نفصل  الإعدادات اللاحقة التي جرت بخصوص أحكام القانون من رواية الحدث التاريخي ، وهو أمر لا يمكن أن يكون دقيقاً في جميع الحالات ، وبالتالي الوصول إلى حقيقة ما قام به موسى .

 

          ويجعل الإكبار المتعاظم الذي عرفه موسى لاحقاً العودة إليه مرة ثانية أمراً ضرورياً . فظهورات الله لموسى قد تبهرنا إلى درجة أننا نقع تحت تأثيرها حينما ننظر إلى وقائع حياته . ومن أجل ذلك ، ولكي نستطع أن نحكم على حياته هو في الصفحات التالية سأفصل بداية بين هذه الظهورات والأوامر الإلهية وما جرى لاحقاً ، كي يتسنى لي أن أعيد التفكير في الوقائع ، كما وردت ، وأقيمِّها في جوهرها الديني . وبعد إنجاز هذه المهمة سنعود إلى ظهورات الله مرة أخرى لنحاول فهم علاقتها بالأحداث . فلندع بداية الوقائع تتكلم عن نفسها . 

2

 

          حينما كنت ، عام 1959 في يوم لا يُنتسى، على شاطئ البحر الميت _ وكانت قد مرت عاصفة على البحر وهطلت الأمطار الغزيرة _ دخل في المساء فريق من السواح الأميركيين _ اليهود ، يشرح لهم دليلهم السياحي ما يرونه . فعلا صوت سمعته يقول باللغة الإنكليزية : " ومن هو موسى ؟ " فانطلق الجواب من فم الدليل وكأنه رصاص يطلق : " كان قائد شعب تعداده ستمائة ألف شخص ! " يمثل هذا الجواب حالة مميزة واحدة فقط من حالات التقارير الفظة التي تصدق كافة روايات الكتب الأربعة . واضح ان جمهرة من ستمائة ألف رجل ، ومعهم مثلهم تقريباً من نساء وأطفال ، ويسوقون أمامهم حيواناتهم ، كانوا غير قادرين على العيش طوال ثلاثة أيام في الصحراء تائهين على وجههم . فماذا لو أخذنا على علاَّتها الأخبار عن حياة موسى كما وردت في الكتب الأربعة ؟ ! إنها توصلنا الى مثل تلك الأقوال المناقضة للعقل تماماً .

 

          ولد موسى ، حسب ما ورد في العهد القديم ، ابناً لعمران ويوكبد وكلاهما من سلالة اللاويين . كان اذاً لاوياً خالصاً ( سفر الاعداد : 27 / 59 _ 60 ؛ سفر : 6/27 _28 ) . ويذكر ان كان له أخ وأخت هما هارون ومريام . ويدعى والد عمران قحاط ، وهو ابن لاويّ ايضاً (  : 5 /27 _ 28 ) . من هنا نعرف أن موسى هو من سلالة لاوي ابن يعقوب في الحلقة الثالثة .

 

          اما قصة طفولته فمعروفة : لما أمر المصريون بقتل جميع أبناء الإسرائيليين الذكور بعد الولادة ، كي لا يتكاثر عدد العبرانيين ، تركت أم الولد ابنها ، فوجدته أميرة من بيت فرعون وطلبت ان يبقى الصبي الذي لفت نظرها جماله على قيد الحياة . وكانت أخته ( مريام ؟ ) تراقب ما يجري فاقترحت على الأميرة ان تعطي الطفل لقابلة ،  باستطاعتها هي ان تعطيها اسمها ، لتغذيه وتربيه . كانت هذه القابلة ، التي أعطتها الأميرة الطفل ، دون ان تدري والدة موسى الحقيقية . " فأخذت المرأة الولد وأرضعته . ولما كبر الولد جاءت به إلى ابنة فرعون فصار لها ابناً ودعت اسمه موسى " ( سفر الخروج : 2 /10 ) . وجاء في الفصل الحادي عشر الآية الثالثة من سفر الخروج : " و أعطى الرب نعمة للشعب في عيون المصريين . وأيضاً الرجل موسى كان عظيماً جداً في أرض مصر في عيون عبيد فرعون وعيون الشعب " . ومن هنا نعلم أن ما قاله القديس اسطفانوس أمام المجلس الأعلى صحيح : " فتهذب موسى بكل حكمة المصريين " ( أعمال الرسل : 7 /22 ) .

 

          لقد قيل الكثير حول تأثير المصريين على موسى ، لا سيما في ما اعتُقد بأنه اخذ عنهم الأفكار التي تميل إلى التوحيد . لكن هذا هراء . إن موسى ، كعبراني ، كان راسخاً بشكل طبيعي في الإيمان بالقوي بالإله الواحد . وما تستطيع قوله بكل تأكيد هو انه تعرف على نظام الحياة اليومية ، وطقوس خدمة الآلهة وتشريعات المصريين .

 

          غير ان موسى بقي بالرغم من ذلك على وعي حي بمنشأه الإسرائيلي .

" لما كبر موسى خرج إلى اخوته لينظر إلي أثقالهم " ( سفر الخروج : 2 / 11 ) وواضح ان شعبه وكذلك منشأه لم يبقياه غير آبهٍ بما يجري ؛ لقد كان شاهداً على الأوزار التي أثقلت كاهل شعبه ، ووصل به الاستنكار إلى درجة انه لما رأى بأم عينه مصرياً يتعدى على أحد أبناء جلدته تدخل بعفوية فقتل الحارس المصري . ويشير واضع الرسالة إلى العبرانيين إلى الصفة الأخلاقية العالية لموقف موسى من شعبه حين يقول : " بالإيمان موسى لما كبر أبى ان يدعى ابن ابنة فرعون مفصِّلاً بالأحرى ان يذلَّ مع شعب الله على ان يكون له تمتع وقتي بالخطيئة ، حاسباً عار المسيح [ أي : الشعب ] غنى أعظم من خزائن مصر " ( رسالة إلى العبرانيين  : 11 / 24 _ 26 ) .

 

          قتل موسى المصري ظاناً _ خطأ _ أن احداً لم يره . فقد عرف في اليوم التالي ان فعلته قد شوهدت وان فرعون سيعلم بها ، وهذا ما تم بالفعل : " فسمع فرعون هذا الأمر فطلب ان يقتل موسى " ( سفر الخروج : 2 / 15 ) .

 

          قد نستنتج من هذا الحدث اموراً كثيرة لم تفلح تربية موسى في بلاط فرعون في جعله يعتبر انتماءه لشعبه دون قيمة . لقد اعادته الى شعبه ، وليس من المهم ان يكون قدتم ذلك بشكل كامل . بل يكفي هنا انه حافظ على انتمائه الى يعقوب وعهده . ثم ان وضعه في البلاط لم يكن من نوع يجعل المصريين ينسون انه كان ولا يزال عبرانياً . فلو كان حقاً عضواً مصرياً في البلاط لما تمت محاسبته على فعلته التي ارتكبها . فاعتبارهم ان هذا الرجل ، بالرغم من التربية المصرية التي عرفها بقي غريباً ، وهذا ما جعل المصريين يلاحقونه جزائياً . لقد وصم بوصمة مجرم سياسي في أعين البلاط بسبب فعلته ؛ انه كان يعي ذلك لذا لاذ بالفرار .

 

3

 

          لم يكن لموسى ، ومثله في ذلك مثل باقي الناس في تلك الحقبة من الزمن ، أي تصور عن الخلود الشخصي . بل كل ما هناك انه عليه ان يدبِّر امور حياته المستقبلية ، وهذا ما كان يتم في نظره داخل حياة شعبه .   ومن اللافت للنظر توجه موسى الهارب نحو مدين . كانت مدين آنذاك مجاورة لمصر و متأثرة جداً بثقافتها ؛ كان سكانها من العرب المتحدر بعضهم من إبراهيم عن طريق كتورة زوجته الثانية . وكان فرع منهم على الأقل محافظاً على الإيمان بالله الواحد الأسمى . ويوصف المدينيون في الكتب اللاحقة بأنهم في معظمهم تجار ماهرون لا يشددون كثيراً على دقة الأوزان والمقاييس ؛ كما كانت لهم علاقات بالإسماعليين جيرانهم في الشمال . وقرب نبعة في إحدى القرى ، صادف موسى ابنة كاهن تدعى صفورة كانت تستقي الماء لقطعانها ، وهي التي قادت موسى إلى أبيها يثرو . ولن نخطئ في الاعتقاد بأن موسى كان يريد ان يلجأ الى أحد هؤلاء المدينيين بالذات ، كاهن الإله الأسمى ، أي ابن إبراهيم وعبراني صاحب عقيدة وإيمان . وقد رحَّب به يثرو ضيفاً وسكن موسى إليه وأعطيت له صفورة زوجة . وبما أن موسى كان ربيب بلاط ملكي ، فلا شك بأنه تمَّ التأهيل به زوجاً لابنة الكاهن . يضاف إلى ذلك انه علم الكثير _ وان لم يكن كل شيء _ على يد يثرو : من تفاصيل عهد الله مع إبراهيم وذريته . ورزق موسى من صفورة ابنان هما غرشوم واليعازر . أما كيف كان ينظر إلى زواجه والى أي حد كان يقدِّر الأسرة التي نشأت معه ، فهذا ما لا يعرف إلا بالتخمين : ألم يترك الزوجة والأولاد بعد سبع سنوات ليعود إلى مصر دون ان يصطحبهم معه ؟ لقد استولى عليه واجبه تجاه شعبه بحيث لم يبق له وقت للاهتمام بأسرته . أما انه شعر بهذا الواجب واستجاب لأمر الله ، فهذا شاهد على إرادته الأخلاقية _ الدينية .

 

4

 

          في ذلك الوقت ، حينما كان موسى يقيم عند يثرو ، كانت سياسة قمع وإبادة العبرانيين من قبل المصرين تسير بخطى واسعة . ولا شك في أن اخبارها قد وصلت إلى مدين ( سفر الخروج : 2 / 23 _ 24 ) . وكان هذا الاضطهاد والإبادة المتنامية يؤثر بالتأكيد في نفس موسى ، ويشغله : فكان كل شيء يحفزه للسعي وراء خلاص شعبه من هذا الوضع . هنا ظهر له الله في العلَّيقة المشتعلة في سفح جبل حوريب .

 

          لقد ظهر الله له منذ البداية على انه " اله ابيك ، اله إبراهيم واله اسحق واله يعقوب " ( سفر الخروج : 3 / 6 ) . ولتجلي الله هذا أهمية بالغة : انه يؤكد العهد الذي أبرمه مع إبراهيم وذريته . وكل ما سوف يقال لاحقاً يفترض هذا العهد والوفاء له . وكثيراً ما أغفلت هذه الواقعة بعد ان جاء بعدها الكشف عن اسم الله " يهوى " أو لنقل انه على الأقل لم يتم تقدير قيمتها الأساسية بما فيه الكفاية . يقع موقف موسى منذ البداية في إطار الوعد لإبراهيم . وبالمقابل سيكون " يهوى " الاسم الذي به يقدس الإسرائيليون بشكل خاص الله مع استبعاد متزايد لغيرهم وتخصيصه بهم وحدهم . 

 

          " قال الرب اني قد رأيت مذلَّة شعبي الذي في مصر وسمعت صراخهم من أجل مسخِّريهم . اني علمت أوجاعهم " ( سفر الخروج : 3 / 7 ) وقد يصح ان هذه الكلمات قد خرجت أيضاً من فم موسى الذي كان يفكّر في ذلك الوقت بمصير أبناء إسرائيل .

 

          بعد ذلك يبشِّر الله موسى بأنه يريد ان ينقذ شعبه من شقاء العبودية ( سفر الخروج : 3 / 8 ) . وهذا يتفق مع ما كان الله قد وعد به إبراهيم حينما تنبأ له قائلاً : " اعلم يقيناً ان نسلك سيكون غريباً في أرض ليست لهم ويستعبدون لهم . فيذلونهم أربع مئة سنة . ثم الأمة التي يستعبدون لها أنا أدينها . وبعد ذلك يخرجون . . . منها " ( سفر التكوين : 15 / 13 _ 14 ) هل كان موسى على علم بهذه النبوءة ؟ يمكننا الأخذ بذلك بكل تأكيد ، لأن يثرو ، وهو من سلالة إبراهيم ، لا بد وان يكون على علم بها .

 

          بات الله يصرّح بأنه سيوسع عهده مع إبراهيم من الآن فصاعداً بظهوره لموسى ، وقد طلب منه ان يذهب إلى شعبه ويُخرجه من مصر . ثم بعد ان تحقق ذلك ، سيكون على موسى ان يعبد الله على هذا الجبل نفسه ، جبل حوريب . يجب علينا ان نفهم أهمية هذا الطلب فهماً صحيحاً : يضع الله موسى في الصف عينه وفي خدمة إكمال وعده لإبراهيم . لذا يعتبر موسى في الزمن اللاحق  إبراهيمياً  وعليه ان يعمل كمنقذٍ لمراد الله بابناء إبراهيم .

 

          ويطرح موسى الآن السؤال الغريب التالي : " ها أنا آتي الى بني إسرائيل وأقول لهم اله آبائكم أرسلني إليكم . فإذا قالوا لي ما اسمه فماذا أقول لهم " . ( سفر الخروج : 3 / 13 ) ألم يكن اسم الله عند إبراهيم وأبنائه العادل ( الشداي ) ؟ هنا يتضح لنا انه بعد الفرقة عن إسماعيل ( وبعد ذلك عن عيسو ) اخذ الإسرائيليون يعتبرون أنفسهم سلالة مميزة مختارة . في هذا الوقت بالذات يوحي الله بالاسم الذي سيكون من الآن فصاعداً اسمه الخاص لدى أبناء إسرائيل : " انا هو [ الذي لا يتغير ] الذي هو " ( سفر الخروج : 3 / 14 ) . هنا يحل الاسم الجديد يهوى محل الاسم القديم ( الإبراهيمي ) العادل ( الشداي ) على انه يتقدم على كل الأسماء الأخرى .

 

          تثار هنا ملاحظات عديدة . لا يمكننا ان نفترض  أن موسى لم يكن يعرف اسم الله ، العادل ( الشداي ) . أما أن موسى ، كما قال لله ، في حال  سأله بنو إسرائيل عمن أرسله إليهم كيف عليه ان يجيب ، فهذا يمكن شرحه أيضاً بأن موسى الذي عاش من قبل مع المصريين في البلاط الملكي وتربى هناك ، لم يكن بديهياً للإسرائيليين ان يتكلم إليهم بالقول ان إلههم هو الذي كلَّفه بذلك . هل أراد موسى ، أو بالحري هل كان عليه بهذا الطلب الحاسم ان يغادروا مصر ، ان يحثهم على الطاعة تحت اسم لله خاص بهم ؟

 

          وما هو أكثر إثارة وجدارة بالملاحظة هو ان الله يُظهر نفسه لأول مرة في تاريخ البشرية تحت اسم مجرد . وسوف يماثل ذلك فيما بعد ان الله سيوجه طلباته إلى إسرائيل بشكل وصايا مجردة ، وانه في وقت لاحق لن توجد في معبده ( الخيمة ، المعبد ) ، في قدس أقداس هذا المعبد ، صورة لله وانما الألواح مع الوصايا العشر . فيجب علينا أن نبقي هذا كله حاضراً في أذهاننا بكل أهميته .

 

          لقد أصبح أبناء وأحفاد يعقوب شعباً . لذا كان لا بد من ان يتخذ العهد ولهذا السبب وحده شكلاً آخر : لن يتكلم الله من بعد إلى أفراد أو غالباً إليهم فقط ، بل سيتكلم إلى جماعة ، لا بصيغة " يجب عليك " بل " يجب عليكم ! " ومع ذلك يبقى السؤال قائماً : لماذا ظهر الله تحت اسم جديد . يقول موسى وهو يتكلم لأول مرة أمام فرعون : " هكذا يقول الرب ( يهوى ) ، اله إسرائيل " ( سفر الخروج : 5 / 1 ) . هل كان موسى يعرف ، او كان بإمكانه توقع أن هذا الاسم ( المجرد ) سوف يكون له تأثير أعظم على المصريين من اسم عيني لله يعود إلى اله خاص بقبيلة معينة ؟ لقد أشار البعض إلى النزعات التوحيدية  التي ظهرت إلى حين في مصر . وقد تكون هنا نقطة الاتصال _ إلا أن هذا لا يتعدى كونه تخميناً . والملفت للنظر ان المصريين يتكلمون في سفر الخروج عن الإسرائيليين باسم " العبرانيين " في حين يتكلم الإسرائيليين عن أنفسهم " كأبناء إسرائيل " . على كل حال لقد أجاب فرعون بطرح السؤال : " من هو يهوى ( الرب ) حتى اسمع لقوله فأطلق إسرائيل . لا أعرف يهوى ( الرب ) وإسرائيل لا أطلقه " ( سفر الخروج : 5 / 2 ) فأجاب موسى وهارون : " اله العبرانيين قد التقانا " ( 5 / 3 ) . " اله العبرانيين " _ هذا كلام كان فرعون يفهمه . ولكن هل كان إلهاً مشتركاً لجميع العبرانيين ؟ هنا كان الإسرائيليون بقيادة موسى على وشك ان يفصلوا أنفسهم عن الآخرين كي يلعبوا تحت اسم الإله يهوى دوراً فريداً من نوعه في تحقيق العهد ، فعل كفعل يعقوب حين استبعد عيسو من الخط ببركة الأب التي حصل عليها بالخداع . 

 

          كانت تطلعات موسى منذ البداية تذهب إلى أبعد من ان يخرج شعب إسرائيل من " بيت العبودية " فحسب . لقد قال له يهوى في جبل حوريب : " حينما تخرج الشعب من مصر تعبدون الله على هذا الجبل " ( سفر الخروج : 3 / 12 ) . إذاً كان موسى يريد أن يقود الإسرائيليين بعد الهروب إلى هناك ، وكان ربما في ذهنه في ذلك الوقت أن يعيد إلى ذاكرتهم عهدهم مع الله ، أن يجدده ، ويشدد على أهميته ولربما في رؤيا لإصدار قوانين .

 

5

 

          لم يكن موسى على أتم الاستعداد لاتباع أمر الله وبدون شرط كما كان إبراهيم من قبله . لقد قال لله : " استمع أيها السيد ، أرسل بيد من ترسل " ( سفر الخروج : 4 / 13 ) وهذا ما أدى إلى ان غضب الله منه وأحاله إلى مساعدة أخيه هارون . في أثناء ذلك كان الله قد أمر هارون بان يتجه نحو موسى ، فوجده أمام جبل حوريب ( سفر الخروج : 5 / 27 ) .

 

          وحدث قبل هذا اللقاء شيء يلقي الكثير من الضوء على ما يجري : رافقت صفُّورة موسى بعض الطريق في رحلته إلى مصر وكان معهما ابنهما ( غرشوم ؟ ) . واثناء الليل التقاه الله فجأةً وطلب أن يقتله . عندئذ قامت صفورة بختان ابنها بسرعة ونقلت الدم الجاري على أعضاء موسى التناسلية وقالت : " إنك عريس دمٍ لي " ( سفر الخروج : 4 / 24 _ 26 ) . لا يمكن فهم هذا العمل الا بأن موسى لم يكن قد ختن بعد بموجب العهد الإبراهيمي . ولم يرد الله أن يدعه يذهب إلى شعبه ( كقائد مستقبلي له ) دون ختان ؛ يبدو ان الابن لم يكن قد ختن بعد . هل كان موسى الذي ربي في بلاط المصريين الملكي يجهل كل شيء عن الختان من حيث هو عهد الله مع إبراهيم ؟ إن والديه لم يختناه بعد ولادته وقد أصبح بسرعة بعد ذلك ابناً بالرعاية للأميرة . أما اذا كان قد تمَّ ختانه على الطريقة المصرية المعتادة ، فليس لهذا الختان أية قيمة دينية .

 

6

          تقبل الإسرائيليون بشرى موسى وهارون بظهور الله ووحيه ، بأنه سوف يخرج الشعب من مصر ، بأمل يتجدد وبامتنان . وقد قوَّى موسى إعلانه بصنع معجزة  ( سفر الخروج : 4 / 29 _31 ) .

 

          وتتابع الأخبار عن حضور موسى المتكرر كثيراً أمام فرعون وردود فعله : التشدد وفرض شروط حياة قاسية على الإسرائيليين ، رفضه الانصياع لكلام يهوى ( الذي أخبره موسى وهارون به ) ، ثم الموافقات التي سرعان ما كان يتم التراجع عنها . أما المعجزات التي صنعها موسى للتأكيد على ما كلّفه به الله ( وكانت تحدث أحياناً بالتنافس مع سحرة مصريين ) والويلات التي أرسلها الله عن يد موسى ، هذا كله يمكننا الإعراض عن ذكره هنا (2) فهذا لا يضيف شيئاً جوهرياً لتوضيح موقف موسى الديني الأساسي . غير أنه يتضح من التقرير كذلك ان موسى كان يتمتع في ذلك الوقت بمكانة ذاع صيتها بين المصريين والإسرائيليين . " وأيضاً  الرجل موسى كان عظيماً جداً في ارض مصر في عيون عبيد فرعون وعيون الشعب " ( سفر الخروج : 11/ 3 ) ووعد الله نفسه موسى قائلاً : " أنظر . انا جعلناك إلهاً لفرعون وهارون أخوك يكون نبيِّك " ( سفر الخروج : 7 / 1 ) . قامت هذه المكانة على أساس الخوف العام من الشهرة ، على التربية المصرية رفيعة المستوى التي عرفها وعلى وعيه بالرسالة التي أوحيت اليه . ولنلاحظ بالمناسبة أن موسى لا يسمى " نبياً " في الكتب الأربعة الا بين الحين والآخر ، وهذه ليست التسمية الحاسمة بالنسبة له ، إنه اكثر من نبي ، هو المشِّرع ، اما الدور الخاص كنبي فقد وقع على هارون .

 

          لن أتعرض هنا لمعنى الاحتفال بالفصح الذي تمَّ في الليلة التي كان يجب ان يموت فيها أطفال المصريين الأبكار . وهنا قد يكون رجع الإسرائيليون إلى طقوس غارقة في القدم إلى ما قبل إبراهيم . وهنا السؤال : هل كان هذا الأمر حاضراً في ذهن موسى كشخص . فبما انه ربي عند المصريين ، يكون من المرجح انه لم يكن يعرف ذلك . وأخيراً ان سماع فرعون بخروج بني إسرائيل من مصر تحت تأثير الويلات الهائلة كان يحقق مخطط إبراهيم فحسب ، ولا يوحي بوجود أي أفكار دينية أساسية جديدة عند موسى .

 

          كان من الطبيعي أن تتم ملاحقة الإسرائيليين الهاربين ولكن ليس بسبب الهروب بالدرجة الأولى ، بل لكي يتم أمر الله الذي سبق وأخبر عنه ؛ وجه موسى القافلة نحو الجنوب أولاً نحو جبل حوريب ، بدلاً من أن يقودها باتجاه أرض كنعان . وحدث أثناء هذه المسيرة التي دامت بكاملها أربعين سنة ، حدث ما كان يجب ويتوقع ان يحدث : عَطِشَ الشعب وجاع وكان عليه أن يدافع عن نفسه ضد هجومات معادية . لكن الله قابل ذلك بمعجزة إمطار المنّ والسلوى من السماء وبنصر الإسرائيليين على العماليقيين الذين كان موسى يريد الثأر منهم بشدة .

 

          وصل الإسرائيليون على مراحل إلى جبل حوريب . وبلغ موسى في سفوح الجبل ان والد زوجته يثرو قادم إليه ومعه ابنته وأولادها . فلاقاه موسى باحترام ، وكان يثرو هو الذي لفت نظره إلى عدم وجود نظام رسمي للحياة الاجتماعية ، وان عليه ان يعّين قادة لكل فريق يكونون بعد سن القوانين قضاة على الشعب . أما هو ، موسى ، فعليه أن يقوم بالأهم ، وهو الاتصال بالله كأسمى واجب وألا يصدر حكماً إلا في الحالات المختلف عليها المستعصية على الحل . إذاً لم يكن لموسى في ذلك الوقت بعد أي تصور لبنية وتنظيم الشعب . وكان للإسرائيليين حين كانوا في مصر " شيوخ " لكنهم على ما يبدو كانوا غير قادرين على القيام بمسؤولية قيادة الشعب بحزم في الصحراء . ومن المهم جداً ان ننتبه إلى هذا الأمر لأن النصائح التي أدلى بها يثرو وعمل بها موسى قد تكون أثرت ، ولو جزئياً على قوانين التعايش بين الناس التي بقيت سائدة في سيناء .

 

          أما الأهم من ذلك كله فهو الوظيفة الدينية التي شغلها يثرو عند بني إسرائيل . فبعد أن أخبره موسى عن نجاحه الباهر في هروب الشعب وإنقاذه ، صاح يثرو قائلاً : " الآن علمت ان الرب ( يهوى ) أعظم من جميع الآلهة " ( سفر الخروج : 18 / 11 ) معنى ذلك انه بات في حكم اليقين ان الله قد ظهر على ما هو عليه _ علماً بان يثرو كان يتكلم بالطبع عن يهوى ، الإله الأسمى العادل ( الشداي ) . ثم يتبع شيء يوحي بأعلى درجات البوح : قدَّم يثرو لله محرقة مع ضحايا اضافية . وجاء هارون وشيوخ إسرائيل وشاركوا في الذبيحة . إذاً أتم يثرو وصية الله التي أوصى بها موسى على سفح سيناء ليرجع إلى مصر : " حينما تُخرج الشعب من مصر تعبدون الله على هذا الجبل " ( سفر الخروج : 3 / 12 ) . وهذا يعني الآن ان الإسرائيليين لم يكن لديهم حتى هذه اللحظة كهنة يقدمون الضحايا . ويتضح ذلك فيما بعد ، بعد أن أعلن موسى الوصايا العشر على الشعب ثم " أرسل فتيان بني إسرائيل فاصعدوا محرقات وذبحوا ذبائح سلامة للرب " ( سفر الخروج : 24 / 5 ) . أما إنشاء كهنوت فقد جاء لاحقاً .

7

 

          في سيناء وعلى سفوحه حدث لموسى وللإسرائيليين ما هو فوق كل شيء آخر : تشريع الله .

          لننطلق من الوقائع : تطور إسرائيل في مصر من عائلة كبيرة واصبح شعباً . كان هذا الشعب في العبودية ، ولربما كان قد انحط ليس جسدياً ، بمقدار ما انحط دينياً . ورغم ذلك لا بد وان يكون قد بقي الشيء الأساسي في دين إبراهيم حياً فيه . اما ان تكون الصيغ التابعة له بقيت متبعة ولو بشكل تقريبي ، فهذا موضع تساؤل . على كل حال لم ترد أخبار دقيقة عن ذلك . لقد قال يثرو لموسى : " علّمهم الفرائض والشرائع وعرّفهم الطريق الذي يسلكونه والعمل الذي يعملونه " ( سفر الخروج : 18 / 20 ) .

 

          الله يكتب بنفسه وصاياه في سيناء على وجه وظهر الألواح الحجرية التي ناوله اياها موسى .

 

          الشريعة ! _ هكذا ستسمى لاحقاً الكتب الخمسة بأكملها بعد هذا الحدث .

وقد وقف موسى بعد ذلك في سيناء إلى جانب التشريع . ولكن ماذا أحدث هذا التحول من دين إبراهيم إلى دين شريعة ودين كتاب ؟

 

          في زمن إبراهيم وبدءاً منه لم يوجد سوى الفرض الواحد ، فرض الختان . وليس هذا بالأمر الغريب ،   لو أخذنا بعين الاعتبار انه لم تكن الكتابة قد توفرت بعد لإبراهيم واتباعه ، أي انه لم تتوفر لديهم وسيلة يحافظون بها على ما فرض عليهم للأجيال القادمة . وكما سبق وقلنا في الفصل حول إبراهيم ، كان الختان هو الكتابة الوحيدة ، أي كتابة سبقت الكتابة بالصور وبالأحرى بالأحرف . المهم ان الكتابة تُبقي على ما فرض ثابتاً بينما الكلمة [ المنطوق بها ] لا يمكنها فعل ذلك . يقول الله : " لا تزيدوا على الكلام الذي أنا أوصيكم به ولا تنقصوا منه لكي تحفظوا وصايا الرب إلهكم التي أنا أوصيكم بها "  ( سفر التثنية : 4 / 2 ) . " وانه يكون لنا برٌّ إذا حفظنا جميع هذه الوصايا لنعملها أمام الرب إلهنا كما أوصانا " ( سفر التثنية : 6 / 25 ) . كان على سير بني إسرائيل عبر الصحراء ، الذي دام أربعين سنة ، ان يشكل نوعاً من التجربة لمعرفة ما إذا كانوا سيعملون بهذه الوصايا التي بقيت حاضرة لديهم مكتوبة ( سفر التثنية : 8 / 2 _ 3 ) .

 

          الأحرف [ المكتوبة ] تبقى ! هذه أول نتيجة لكتاب الوصايا _ وهي ذات أهمية كبرى . الطلب المحدد يبقى هو هو عبر الأزمان .

 

          ولكن ثمة وجهاً ثانياً للقانون ليس بأقل أهمية . القانون يعمِّم . فبدلاً من المهمة الفردية والإشارة العينية بشكل كامل يظهر التوجيه الجماعي بصيغة قانون مشترك يطال جميع المعنيين في كافة ظروفهم . وحينما يثبت بالكتابة يعيِّن هذا القانون العام الشعب باستمرار ويشكّله . كان ذلك ضرورياً نظراً لازدياد عدد الإسرائيليين كي يحافظوا على تماسكهم ، الا انه يعني أيضاً ضياع الصفة الفردية . ان حميمية العلاقة العينية الفريدة تُفقد _ إلا انها لم تبق حاضرة الا ذهنياً لو تذكرنا ان الله قد أعطى القانون لإبراهيم ، وبالحري لموسى كشخص في وقت معين .

 

          إلا انه من الآن فصاعداً ستحدد القوانين بصورة شاملة وباضطراد دائم الحياة الدينية  . وبسبب شمولية هذه الأوامر الجامدة عينها ، سيظهر لمعادلتها فيما بعد إلى جانب القانون الأنبياء الذين بدعوة شخصية من الله يعيَّنون أنبياء من قبله ، لينطقوا في ظروف تاريخية معيّنة ما هو مطلوب تحديداً . فالأشكال المعينة التي أخذها القانون قسراً على ممر التاريخ ، هي بحاجة لأن يكشف عن حقيقتها ومعناها كي لا تمر عليها شكلية القانون الجامدة فتنتج عن بطشها اعتمادات وأشكال سلوك خاطئة . 

 

          ان ترقي ما يجب ان يكون فيصبح قانوناً يتم بشكل تجريد . والخطر هنا ان لا نبقى واعين بأننا نتعامل مع تجريد وانه لا يصح ان " يرفع " من جديد بمناسبة تدخلٍ عيني ، أي ان لا نتراجع عنه في حالة وضعٍ قيمي عيني . فإذا لم يحدث ذلك ستكون النتيجة الشكليةَ الشرعيةَ التي لا يعطيها المطلوب حقها باشكال متعددة . القانون هو المسطرة التي يقاس عليها كل واجب ، فهو لم يعد عينيَّتها الفريدة .

 

          إلا أن النتيجة الأشد خطورة التي أتت عن طريق القانون كقانون ، هي ان القانون يبسِّط. يتمسك الإنسان بالقانون على انه الفرض الثابت ويؤمن انه باتباعه للقانون قد أتمَّ  كل ما هو مطلوب منه . لا بل يتشعّب القانون فتحصل كمية كبيرة من القوانين الضمنية او المضافة اليه ويعتقد ان الأخلاق تقوم كلياً في إتمام هذه القوانين فحسب . غير ان القانون ليس مقدساً لكونه يحمل صيغة القانون ، وانما لكونه يحيل في كل مرة إلى الأخلاق العينية ، ولا يقوم مطلبه بحقٍ لأنه قانون شكلي وإنما بسبب المحتوى الذي لا يمكن ان يعلن عنه رغم ذلك إلا باثبات مجرد وعام . وعلى أساس الشرعية التي أسيء فهمها على انها قيمة بحد ذاتها ، ستقوم لاحقاً الفرّيسيَّة .

 

          عندما كان إبراهيم يشفع لسكان صادوم ( ومن بينهم لوط ) كان يقول : " ان تميت البار مع الأثيم فيكون البار كالأثيم . حاشاك " ( تكوين : 18 / 25 ) . ولكن ماذا فعل موسى كلاويّ ؟ انه ، استناداً إلى أمرٍ من الله ، جعل البارَّ دنيئاً ، وكان ينبغي عليه ان يقتله ، وجعله قاتلاً . وكل من اتبع هذا السلوك ستنقلب عنده العدالة حتماً إلى نقيضها .

 

          أمامنا هنا مثل قاطع للانحراف من الداخل ، وهي انحرافات اشد خطراً من تلك الآتية من الخارج لأنه يصعب جداً ان تلاحظ بسهولة . فيعتقد البعض ان كونهم " داخل الجدران " يجعلهم بالفعل نفسه " ابراراً " أيضاً ، وهم لم يلاحظوا انه لم يأتِ بتأثير من الخارج وإنما فقدوا البَّر بسبب الانحراف الذي لم يكن أقل شدة _ لكنه غير ملحوظ _ الذي حدث من الداخل . ويفعل هذا الانحراف أيضاً حيث يستصوب فعل الشر لأنه ( زعماً ) يأتي بالخير .

 

          يروى مرة واحدة عن يسوع انه " غضب " ( إنجيل مرقس : 3 / 5 ) وذلك حينما صمت الفرّيسيون أمام سؤاله : هل يصحّ فعل الخير بدلاً عن الشرّ يوم السبت . ان غضب يسوع هذا يكشف افضل من أي شيء آخر عن دناءة الشرعية : إذ هنا تعيق صلاحية القانون العام المطلقة القيام بفعل أخلاقي عيني مطلوب . ان الشرعية تعمل هنا بشكل معيق لاقامة العمل الصالح . لقد أصبح القانون ضرورياً بسبب " قساوة قلب " الإسرائيليين ( التي شارك فيها موسى نفسه ! ) ومع ذلك هو في الوقت نفسه تعبير عن هذه القساوة وعن حقيقتها .

 

          إن القانون ، بوصفه قانوناً وأمراً يمكن ، لا بل يجب ان يتصادم في بعض الحالات مع ما يؤمر به عينياً . وقد وضع يسوع ذلك أمام أعين الفريسيين المتعنتين بعناد . لقد أنكروا العلاقة المقصودة هنا لا سيما وان هذا الإنكار سوف يأتي بنتائج لصالحهم ، ولصالح الله ظاهرياً فقط . ومعروف خلاف يسوع مع وفد الفرّيسيين والكتبة الذين أتوا إليه من أورشليم ، حول مسألة ما إذا كان تقديم القرابين يحق ان يعفي من واجب مساعدة الأهل . وقد دافع الفريسييون عن ذلك بضراوة لأنهم يستفيدون هم ( وظاهرياً الله ) منه . لأن ما قدِّم كقرابين ( حسب تعاليمهم ) قد أصبح ملكاً للله ، ولكن بحسب قصدهم المكَّار قد أصبح ملكهم هم . بكلام آخر : ان حالة التصادم بين القانون والمأمور به عينياً يتيح الاستنتاج باتجاه معاكس كوسيلة إفساد لما هو مطلوب بالحقيقة .

 

          ولنوضح ذلك بمثل : لنفرض ان كاهناً قد خصص خبزاً للتقديس ثم باركه على أساس هذا الهدف . وفجأة إذا بصبي أنهكه الجوع جاء فجأة وأمسك بثيابه وطلب منه خبزاً وهو يصرخ جوعاً . فهل يكون مثل هذا الكاهن أهلاً لتقديس الخبز إذا كان رفض ان يعطي الصبي الخبز ؟ مثل هذه الحالات بالذات هي التي كان يقصدها يسوع حينما كان يضع الفريسيين أمام اتخاذ قرار _ ومثل ذلك أيضاً داود والخبز المستعرض ، والأهل المسنّون الذين تركوا دون مساعدة مع القربان المقدم .

 

          وهنا في هذا الموضع نستطيع أن نفهم بعمق لماذا لم يكتب يسوع ، بل تكلم ، لماذا هو الكلمة وليس الكتابة . لا شك في ان ما يجب ان يكون يصدر عن أعلى موقف قيمي . الا انه لا يمكن ان يتحقق بأصالة إلا في وحدة سابقة التنوع في الذهن . وكل شرح شكلي يخضع لقانون التعميم المذكور .  وبما أن يسوع هو " الكلمة " فإنه يفعل بشكل أساسي دوماً بالكلمة أيضاً ( وليس بالكتابة ) (3) ( نعم ، لقد كتبت " الأناجيل " ، لكنها تسرد كلام وافعال يسوع في أكثر الحالات بمناسبات عينية تحدث ) . لقد أمر يسوع الرسل بالتبشير بالكلمة ، وليس بتأليف كتب ونشرها . ان يسوع يعمل بعد موته وقيامته بواسطة الكلمة بشكل أساسي ، التي أنزلها الروح القدس من بعده على رسله ، وهذا يعني بشكل مماثل ، كما عمل الأنبياء كأنبياء من قبل .

 

          وحينما يقال في الكتاب المقدس ان نبياً معنيّاً أو نبؤه معينة قد " بعثت " في " روح " نبي سابق ، فهذا يعني ويشير إلى فعالية هذه الكلمة ، وفي حالة يسوع [ فعالية ] الكلمة ( بقوة [1]مساعدة الروح القدس ) . وهكذا كان في العهد القديم أيضاً ؛ حيث يتكلم أشعيا الثاني بالروح نفسه الذي تكلم في النبي أشعيا الذي تذكر الكلمات النبوية الجديدة باسمه . ويشهد بعمق نظرة القرآن العبقرية ، وهو " كتاب " حينما يتكلم عن يسوع فيقول : " إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحه منه " ( السورة 4 الآية 171 ) .

 

          وفي حديث بعد العشاء السري سأله يهوذا ليس الاسخريوطي : " يا سيد ماذا حدث حتى انك مزمع ان تظهر ذاتك لنا وليس للعالم ؟ " ، ويبدو في الظاهر فقط أن يسوع لم يجب فيما قاله عن هذا السؤال . لقد قال : " ان أحبنَّي احد يحفظ [ يتبع ] كلامي ويحبّه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً . الذي لا يحبّني لا يحفظ كلامي " ( يوحنا : 14 / 22 _ 24 ) . علينا ان نفهم هذا الجواب وكأنه نوع من القلب : الكلمة وحدها ( كوسيط ) تولد المحبة مباشرة وتجعل القلب منزل الله الدائم . فمن لا يحفظ الكلام ( كلام يسوع ) لا تشعل فيه المحبة مباشرة .

 

8

 

          المبدأ المعيِّن للقانون هو ما يجب ان يكون . وهذا بالذات هو ما كان أعطي بواسطة إبراهيم : " سر أمامي وكن كاملاً " . وقد أُورد ال " ما يجب " هذا في المقام الأول في الوصايا العشر ، وعمّم في الوقت نفسه على سلوك أعضاء العهد تجاه بعضهم البعض . ويحظى ال " ما يجب " في الوحي الذي نزل على إبراهيم أوَّلية مطلقة على " ما هو " . ان إبراهيم يضّحي بما هو ( نسله ) لمن يجب أن يكون . " قال الله : ليكن نور ، فكان نور " ( تكوين : 1 / 3 ) . ولا يعيّن هذا ال " ما يجب  " المطلق إرادة الكائن العاقل فحسب ، بل هو قانونٌ للطبيعة أيضاً . هذه الأولية بالذات ، مبدأية " ما يجب " المطلقة هي جوهر الوحي لإبراهيم ، ونجده لدى بني إسرائيل الذين بقوا أوفياء لله ، كما نجده معترفاً به في وعي أبناء إسماعيل أيضاً . ومن ال " ما يجب " المطلق وقطعيته يحصل كل شيء على معناه الحقيقي .

 

          هنا نستطيع أن ندرك بوضوح كم هي سخيفة الفرضية القائلة لم يصل موسى إلى معرفة وحدانية الله بعد أن تعرف على مبادئها الأولى على يد المصريين ! لم يحتوي أي تشريع مصري أو بابيلوني على الأولية البارزة التي للوصايا الإلهية الثلاث على الوصايا اللاحقة الهامة بالنسبة للعلاقات بين البشر _ وهذه الأولية جاءت من إبراهيم كما قال الله لموسى في العلَّيقة :  "  أنا اله إبراهيم . . . "

 

          وإذا كانت للوصايا الثلاث الأولى القيمة الأكبر بالوصايا السبع اللاحقة فذلك ناجم عن هذه الرؤيا الواضحة في غَلَبة الله المعِّينة وفي لطف إرادته المطلقة .

 

          بالنسبة للوثنيين القدامى كان القانون السياسي ليس أكثر من قانون طبيعي على درجة من التسامي . وكان حالة شاذة عندهم أن يرفع سوفوكلس صوته ضد القانون السياسي باسم القانون غير المدوّن وقد رفض جميع الوثنيين هذا التقدم ولم يتبعوه . قانون العالم بما هو قانون طبيعي يبقى غير شخصي ، هو شيء . حتى ولو أخذ شكلاً في قوى أو أفراد . فهو ليس إلا تأثيراً خاصاً لنجمٍ ما على ملك ( لنفكر هنا بمردوخ ) . ان ال " ما يجب " يحصل " عن المعطى الموضوعي .

 

          ويرتبط بأولية " ما يجب " ارتباطاً عضوياً انه يعطي مهمَّة تاريخية معيَّنة . فما يجب ان يكون هو في المعتاد لم يوجد بعد في الفكر ، وبهذا يشير إلى فعلٍ ثان ، يصبح فيه واقعاً . كانت هذه المهمة التاريخية بارزةً بشكل واضح في دعوة إبراهيم حيث أصبحت حقيقة ملموسة وأثَّرت ( إيجابياً ) على تاريخ العبرانيين وبعدْ على تاريخ المسيحية ، وبالمقابل أثَّرت ( سلبياً ) في خروج يعقوب _ إسرائيل من العهد حينما سلَّم هذا النسل يسوع إلى موت الصليب .

 

          ان المهمة التاريخية لا يمكن ان تكون إلا ملموسة . فالتاريخ في جوهره فريد بالضرورة ! لم يفعل موسى أكثر من أن دخل في الاستجابة لهذه المهمة . ولكن مع التشريع أصبح هذا حتماً بهذا المعنى معَّيناً ، ومنذ تلك اللحظة أصبحت تحدده قوانين ثابتة ، جعلت اللحظة المعَّينة من جرائها باهتة . حينما قال اليهود لبيلاطوس عن يسوع : " لدينا شريعة وبحسب هذه الشريعة يجب أن يموت ! " عندئذ محت عمومية الشريعة الجامدة بشكل جذري العينَّيةَ الضرورية التي لل " ما يجب " الآمر . إن القانون يوجد من أجل الإنسان ( الملموس ) ولا يوجد الإنسان من أجل القانون _ هذا هو الموقف المعاكس : من أجل الإنسان ، بشكل خاص !

 

          يهدف التشريع العام إلى أخلاق أولية ، لكنه يعتِّم بالضبط بذلك على الأخلاق الملموسة الأعلى ، لا بل ولربما يجعلها منسية  . وسوف يعمل يسوع بكل المقاييس من أجل إعادة

 أولية الأخلاق العليا مقابل تلك الأولية ، وذلك بالمعنى الذي أراده إبراهيم بشكل كامل ، إبراهيم الذي جعل من المهمة الشخصية التي وكلت إليه وقد كانت بشكل عام أولاً الختان ، جعل منها لحظة ( غير كاملة ) في تحقيق الصدقة . إن السامري يعتني بذلك المسكين الذي وقع في أيدي اللصوص فأوسعه ضرباً ، وهو يعي انه لا يحترم بذلك القانون العام ؛ في حين يمر الكاهن اليهودي واللاوي به دون ان يفكر أحد منهما بإتباع القانون .       

 

________ . _________

 

9

          تبقى ناحية أخرى ل " ما يجب " ، ناحية جوهرية ، علينا ان نعيرها كل الاهتمام . " ما يجب " هو مطالبة ؛ شيء يجب ان يكون وليس ألاَّ يكون . ان ما هو موجود ، بشكل لا يتفق مع " ما يجب " هو قيمة سلبية ؛ وتلحُّ القيمة على إلغائه . ويتم ذلك في حالة القانون بواسطة العقوبة . فمثلاً الوصية القائلة : " لا يكن لك آلهة أخرى أمامي " ( خروج : 20 / 3 ) تحمل معها نتيجة عملية حين يقال : " من ذبح لآلهة غير الرب وحده يُهلك " ( خروج : 22 / 20 )

 

          في ال " ما يجب " الأخلاقي الخالص تكون العقوبة على أعلى درجة فقط حينما لا يُعمل بما هو مطلوب ( ليس عن عجز ) وعندئذ لا يكون الفعل مؤسساً على ال " ما يجب " على الرغم من أنه تمَّ إدراك مطلبه _ وذلك لأن الرافض لا يريد . ويجد هذا الابتعاد عقوبته في انه عندئذ لم يعد راسخاً في الموقف القيمي . ( لا يعود جيداً أخلاقياً ) . وإذا قارنا بين عقوبة القانون الذي انتهك بتلك العقوبة لوجدنا انها لا تتعدى كونها تعويضاً خارجياً فقط بالإضافة إلى انها غالباً ما تحوم حولها التساؤلات . ويتسبب التناقض مع ال " ما يجب " الأخلاقي الخالص بوجود خطر فهم خاطئ من ان التعويض الخارجي ، ومعه اتباع القانون ، قد أصبح هو الأخلاقية نفسها . وبما أن هذا ليس صحيحاً ، لذا لا يكون المطلوب قد تحقق بعد بفعل ال " ما يجب " بل بفعل إتباع القانون . وحين لا يفهم هذا الأمر ، لا يعرف المطلوب الخالص أخلاقياً على حقيقته ، لا بل ربما يُبغض بسبب قانونيته البحتة والصارمة .

 

__________ . ____________

 

10

 

          لا توجد في التشريع الموسوي دولة ، ولا يضع لها هذا التشريع أساساً . ويعود ذلك إلى ان التشريع هو تشريع إلهي حتى فيما يتعلق بالكيان الاجتماعي . وسوف تظهر أهمية انعدام وجود دستور دولة في عهد القضاة بشكل مؤلم جداً لما شعر الإسرائيليون بأنهم دون باقي الشعوب ؛ لذلك أقاموا حكماً ملكياً في عهد النبي صموئيل . لكن هذا لم يستطع أن يحل محل الدستور الأساسي الإلهي أو يلغيه من أساسه . وتقوم سيادة الملك ، حينما لا يكون ملكاً إلهاً في الوقت نفسه ، على أنها سيادة عليا قد تختلف مع سيادة الله المفترضة . وتمَّ التغلب على هذا التناقض مع موسى و داود . كان موسى بوق صوت الله والسيِّد الفعلي على بني إسرائيل . أما داود فلم يكن قائد الشعب فحسب ، بل شخصية دينية أيضاً وذلك بقَدَر خاص ولكن لم يكن في الحسبان أبداً ان توافقاً كهذا سوف يكون القاعدة مستقبلاً .

 

          وحينما أرغم الإسرائيليون ومن بعدهم اليهود على الذهاب إلى المنفى ، لم يبقَ لسيادة ذاتية كهذه أي معنى . هنا أصبح القانون الرباط الذي أبقى وحده الإسرائيليين متماسكين مع بعضهم البعض . لا بل لم يبق لهم بيت الله المشترك . كان القانون هو الذي ينظم شريعة شعب الله . من هنا نفهم لماذا بقي للقانون ذلك الاحترام : إنه الشيء الوحيد الذي بقي لهم  ، ينظم سلوكهم ويشكّل لهم كياناً خاصاً في المنفى . لقد أعطى أعضاء عهد الختان وحدة في كل الدول . وكان السؤال المقلق في القرون اللاحقة من انعدام وجود دولة تخصهم : هل سيكون القانون قوياً إلى درجة انه سيخلق وحدة حيث لم يوجد شيء آخر تقوم عليه . فنتجت عن هذا الوضع مرة أخرى قانونية جامدة وصارمة ، جعلتهم ، ان صح التعبير ، يضعون القانون وضعاً مطلقاً كآخر أساس لهويتهم . 

 

11

 

          ولننظر الآن في محتوى القانون ؛ يقع نظرنا حالاً على شيء جوهري وحاسم : تحتوي الوصايا الأولى على ما يخص العلاقة بالله ، فهي إذاً الوصايا الدينية بالمعنى الحصري . إلا أن هذه الوصايا حصراً لم تأت مع وبواسطة موسى . لقد سبق وأعطيت لإبراهيم ويعقوب من قبل : الله المتفرد بنوعه ، إقصاء كافة الآلهة الأخرى ، تقديس اسمه هو وحده ، هذا هو محتوى نظرة إبراهيم الروحية . اما تقديس السبت فهو على علاقة باحترام وجود الله ، فهو إذاً من فصل بيت _ إيل الذي كتبه إسرائيل . وبالمقابل تأتي الوصايا اللاحقة مرتبطة بسلوك البشر مع بعضهم البعض ، وهذا هو الجديد النوعي في الوصايا العشر .

 

          لننظر بداية في البنية الأساسية لعشرية الوصايا : وصايا الجزء الأول ( الوصية الأولى حتى الثالثة ) تخص العلاقة بالله ، في حين تخص الأخرى سلوك البشر تجاه بعضهم البعض . وتشكل الوصية الرابعة مفصلاً بين الجزئين إذ يأخذ الأهل نوعاً ما منصب الوسيط بين الله وبقية البشر ( وعلى هذا الغرار يقوم في الصلاة الربانية الطلب الرابع المتعلق بالخبز اليومي وسيطاً بين الطلبات الثلاث الأولى والطلبات من الخامسة وحتى السابعة ) .

 

          وتحتل الحياة في الأسرة ، عبر تاريخ تطور البشرية ، حقاً المكانة التي ينطلق منها كل ما تبقى . هنا بقيت كافة العلاقات التي ستخرج عنها لاحقاً محتواة داخل العيش مع الأهل والاخوة والأخوات .

 

          كما أن الوصايا التي تنظم السلوك تجاه الله مماثلة لتلك التي تنظم سلوك البشر تجاه بعضهم البعض ، وهي مقسمة إلى ثلاث وجهات نظر : ما يتعلق بالوجود ، بالتقديس وبالملكية .

 

          كما اننا نجد في القرآن الآيات الرائعة التي تبرز بشكل مؤثر وحدانية وفردانية الله الواحد وطلب إكباره هو دون غيره . وتتطلب قدسية الله ألاّ يدنَّس اسمه . ( يخلط استخدام هذه الوصية في حالة القّسّم بين الفكرة الخالصة وبين أهميتها بالنسبة للعلاقات بين البشر ) . وفيما يخص السبت والمذبح وخيمة الله ، انها ملكية الله .

 

          وبالتماثل عينه نجد كيف ان موضوع الوصايا من الخامسة وحتى السابعة ، ومن الثامنة وحتى العاشرة هي الشهوة : فالقتل يعني إعدام الوجود ، الزنى يسيء إلى الشرف ، والسرقة تمسّ الملكية . وتتعلق الوصية الثامنة وحتى العاشرة بالأمر وحده : ذلك ان الكذب يُعدم روحياً الوجود الحقيقي فيما يجسده ، واشتهاء زوجة القريب يتعلق بشرفه وبشرفها ( لذا يعتبره  الكتاب المقدس دوماً وبحقٍ على انه خرق عهد الله إذ يضعه على درجة المساواة مع تكريم آلهة أخرى ) . أما ملكية الناس الآخرين فلا يجوز ان " تسلب " منهم حتى ولا الملكية الفكرية كونها ملكية .        

 

___________ . ___________

 

12

 

          هل في الوصايا الثلاث الأولى من الوصايا العشر ما يتجاوز الأفكار التي وردت في عهذ الآباء ، ام انها قد تأخرت عنها ؟

 

          لننظر بداية في الوصية الثالثة : صيغتها أن " قدِّس السبت " . لا نستطيع تأكيد ما إذا كان السبت " يقدّس " في زمن العبودية في مصر إذ لم يرد خبر حول ذلك في أية وثيقة . ولم يكن الأمر على غير ذلك كما يبدو ، في الصحراء ، فيما عدا أنه منع عليهم جمْع المنَّ والسلوى في اليوم السابع . واللافت للنظر أن السبب الذي ذكر للأمر بالراحة يوم السبت هو سبب غير كاف : بما ان الله قد " ارتاح " في اليوم السابع للخلق ، لذا يجب على الذين يقيمون العهد معه ان يرتاحوا في اليوم السابع . أما الأمر الأكثر أهمية ، وهو انه يجب تكريم الله في هذا اليوم لأنه مُلْك له ، فهذا ما لم يُذكر . ان للقرآن نظرة أسمى ، حيث يقول : " الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش " ( السورة 7 / 54 ) لا شك في ان اليهودية الربينية قد ارتقت هي أيضاً إلى هذا الإدراك بعد تدمير الهيكل . وتذهب الرسالة إلى العبرانيين إلى أعماق مختلفة كلياً وباتصال مع المزمور 94 ، إذ ترى ان تقديس السبت الحقيقي هو " الدخول إلى راحة الله " وهذا ما سوف يكون له معنى محوري في الإسلام ( سلم ) . وهذه فكرة لا تعثر عليها في الأسفار الأربعة ، الا انها فكرة حاسمة في دين إبراهيم .

 

          لنعد بالنظر مرة أخرى إلى الوراء ، إلى زمن الآباء ، كي نفهم ما هو المحتوى الذي يمكن أن يكون في الوصية الثالثة . إن الختان الذي يجعل ممن يُختنون ملكاً خاصاً بالله ، لا ذكر له في الوصايا العشر في معرض الوصية الثالثة _ وفي هذه الحالة يكون ذلك بحقِ لأنها شرط قد تمَّ من قِبَل من يوجه إليهم التشريع في سيناء ولا يمكن أن يفرض الآن في الوصايا العشر .

 

          ولنلاحظ في هذا المكان ان الأسفار الأربعة تتعامل بتألق مع قطع العهد . ففي الإصحاح الرابع والعشرين من سفر الخروج نُخبرَ بأن موسى قد قرأ الشرائع على الشعب كله وحصل على وعدٍ منهم بأنهم عازمون على إطاعة وصايا يهوى . ثم رش الهيكل والشعب بالدم وقال : " هوذا دم العهد الذي قطعه الرب معكم " ( خروج : 24 / 9 ) . لقد كتب هذا الخبر بالطبع بعد مرور عدة قرون ، الا انه يوحي من جهة بأن الله قد قطع عهده مع العبرانيين هنا لأول مرة ، وليس مع إبراهيم . ويذهب كاتب النص إلى أقصى حدود هذا التصور ، ولكن بالطبع دون ان يتجاوزها بشكل نهائي . ولكن لو أردنا ان نتهمه بالفكرة لقلنا انه هذا هو المكان الذي يجب ان يذكر فيه الختان ويفرض . لكنه لا يأتي حتى على ذكره . (4)

 

          أما الأشكال الخاصة لعبادة الله ، التي تقع ضمن الوصية الثالثة ، فهي تقديم ذبيحة لله الواحد ، وإقامة بيت الله ( الخيمة ) وزيارته .

 

          إلا ان تقديم الذبيحة على أن تكون حيواناً فهذا أمر مشترك بين الوثنية وابناء إسرائيل . ولا يفهم تحديد طقس خاص بتقديم الحيوان كذبيحة ، في أحسن الأحوال ، بأكثر من انه استبدال لذبيحة إبراهيم . بالطبع ليس من الممكن ان تعاد مرة أخرى التضحية بإسحاق ؛ إلا ان نقصاً جوهرياً يلحق في نهاية الأمر بالذبيحة الموسوية ، التي أدت فيما بعد إلى استخفاف بها من قبل الأنبياء .

 

          وخيمة الله المقامة أثناء السير عبر الصحراء ما هي إلا تحقيق أول لما رآه يعقوب في بيت _ أيل . وسوف يكون في الأزمنة اللاحقة بيت الله الوحيد ، بالمعنى الدقيق للكلمة : الهيكل . ومن الأهمية بمكان ان تلاحظ هنا كيف انه لم ترسّخ هنا وفي الوصية الثالثة إلا فكرة يعقوب بموجب قانون . وبالتالي لا يبقى سوى الوصايا التي تنظِّم علاقة الإسرائيليين ببعضهم البعض وهي الوصية الرابعة وحتى العاشرة ذات طابع موسوي خاص .

 

13

 

          لقد صاغ سفر التثنية ، وفيه دون شك آخر صيغة للشريعة ، الوصية الأولى صياغة إيجابية ، حيث قال : " الرب إلهنا ربُُ واحدُ . فتحبُّ الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك " ( تثنية : 6 / 4 ) . وقد جمع يسوع إلى هذه الوصية لاحقاً وصية ثانية : " أحب قريبك كنفسك " ( متى : 22 / 39 ) و أضاف موضحاً : " بهاتين الوصيتين يتعلّق الناموس كله والأنبياء " ( متى : 22/ 40 ) . وفي الحقيقة بهذا يكون قد أُدرك تقسيم الوصايا العشر كلها . اما معنى " أحب " فقد أوضحه يسوع بمثل السامريّ الرحيم الذي بفعله غير المخطَّأ من الناموس أوجد العلاقة مع القريب . غير ان فهم يسوع للمحبة وللقريب يذهب إلى أبعد مما جاء في سفر التثنية ، الآية السادسة المذكورة سابقاً واكثر مبدئية . فالمعني بالقريب هناك هو العضو في العقد ( يضاف إليه المهتدي قريباً ) . لكن الأمر الحاسم هو : ماذا يفهم بكلمة " محبة " ، ذاك ان موقفاً قيمياً يعبَّر عنه هنا ، وهو الأكثر أهمية على الإطلاق .

 

          بالنسبة لإبراهيم كانت الفكرة الأخلاقية في صميمها هي فكرة " العدالة " ( صدقة ) وبالتالي يجب ان تعني المحبة الواردة في سفر التثنية ، العدالة ( دائماً بمعنى العهد القديم ! ) . ونجد العدالة مذكورة في موضع حاسم جداً حين يقول : " لأن حكمتكم وفطنتكم أمام أعين الشعوب الذين يسمعون كل هذه الفرائض فيقولون هذا الشعب العظيم إنما هو شعب حكيم وفطن . لأنه أي شعب هو عظيم له آلهة قريبة منه كالرب إلهنا في كل أدعيتنا إليه . وأي شعب هو عظيم له فرائض واحكام عادلة مثل كل هذه الشريعة التي أنا واضعُُ أمامكم اليوم " ( تثنية : 4 / 7 _ 8) . كل ما يفعله موسى لشعبه يوضحه بأفضل شكل ما ورد في هذه الآيات على انه مضمون الصدقة ، بما في ذلك الشفاعات المتكررة في حال خان الشعب الله وحاد عن شريعته .

 

          غير ان فكرة الضحية الإبراهيمية بقيت منسية ، وبالتالي ان " الحب " بالكلام الموسوي تنقصه هذه النبرة ، هذا الموقف القيمي الخاص . وينقصه بشكل مطلق أي أثر لما ستكون عليه إرادة يسوع فيما يخص التكفير عن جميع الخطايا وما يقابله فيها من محبة حتى للأصغر والمنبوذ ، هذه المحبة التي ستكون بمثابة الباب إلى العهد الجديد .

 

          ومهما يكن الأمر فان الصياغة الإيجابية للوصية الأولى كما وردت في التثنية 6/4 تشكل اقتراباً جديداً من الأمر ذي الطابع الإبراهيمي ، وليس من الصدفة ان يكون أشعيا ويسوع قد ربطا كلامهما به .

 

_____________ . ______________

 

14

 

          علينا التمييز في التشريع الموسوي بين ثلاثة أشكال مختلفة : القوانين التي أعطيت من الله مباشرة ( الوصايا العشر ) ، الأوامر التنفيذية ، التي ترك الله لموسى بصريح الكلام ان يصدرها ( تثنية 4 / 14 ) وتشريعات الاحتفالات التي تقع موقع الوسط بين السابقتين . ويفترض ان موسى قد اقام العبادة بموجب قدوة سماوية ( راجع مثلاً : تثنية : 21 / 1 وما يتبع ) . يتبع من هنا ان ما أصدره موسى نفسه من تعليمات لتطبيق قوانين الوصايا هي تعليمات بشرية ( حتى ولو انها موحاة في كثير من الأحيان ) لا توازي مرتبتها المرتبة التي تحتلها القوانين الإلهية .  وحتى بخصوص تلك المؤسسات المناسبة فان موسى ( بالطبع بأمر من الله ) هو الذي أقامها . وفيما يتعلق بقوانين الاحتفال  يقول الله لموسى : " بحسب جميع ما أنا أريك من مثال المسكن ومثال جميع آنيته هكذا تصنعون " ( خروج : 25 / 9 ) وتصنع السفينة على أمثلة سماوية وكذلك محتوياتها ، ألواح الوصايا العشر وكرسي النعمة المبني فوقها كمقعد لله غير المنظور ( خروج : 25 / 10 وما يتبع )  ( ملاحظة : وفي القرآن الذي يتبع هنا التوراة ثمة تمييز أيضاً بين القوانين الصادرة عن الله وتلك الأوامر التنفيذية ( التي يضعها المؤلف ) ولهذا التمييز أهمية كبرى ؛ وليس للاثنين مرتبة واحدة ) .

___________ . ___________

 

15

 

          اننا نتتبع هنا تطور إسرائيل الروحي لا غير ، لذلك لن نتعرض إلى شرح الجانب الاجتماعي المحض والقانوني البحت للوصايا العشر . أما اعظم ما قام به موسى فيبقى انه أعطى للوصايا الخاصة بالله في التشريع المرتبة الأولى غير المتنازع عليها قبل ذاك الذي ينظم العلاقات بين البشر . وبهذا يختلف التشريع الموسوي عن سواه من التشريعات التي كانت معروفة في تلك الأزمنة الأولى من التاريخ ( المصرية ، البابلونية ، الخ . . . ) .

 

          ولكن لا بد من ان ننوه بأن المجال الذي يخص الله وذاك الذي يخص العلاقات الإنسانية هما متداخلان إلى درجة لا تسمح إطلاقاً بالقول بوجود فكرة مجتمع بشري بحت . ان جماعة الإسرائيليين سوف تبقى لذلك فيما بعد دوماً جماعة خاصة ب " العهد " ولن تتراجع لتكون جماعة بيولوجية بحتة او سياسية ، حتى وان استطاعت ذلك أيضاً ، ولكن دون التخلي عن الوصايا العشر . ويظهر ذلك تاريخ إسرائيل اللاحق ، أي وبالضبط حينما أدخل النظام الملكي .

______________ . ______________

 

16

 

          وتوجد ناحية جوهرية أخرى لفعل موسى ، لم نتعرض إليها بعد ، وهي التي تظهر أيضاً في التعليمات التنفيذية .

 

          كان موسى عضواً من سبط لاوي . وقد أنجب لاوي بن يعقوب قحاط وقحاط أنجب عمران وعمران أنجب موسى . وكان اللاويون أحد قبائل إسرائيل الذين خرجوا من مصر ؛ وكانوا يقفون في الصحراء أثناء الهروب على قدم المساواة مع القبائل الأخرى .

 

          وتأتي لللاوييين مرتبة خاصة داخل الشعب كله حينما قام موسى وأقدم على فعل ما فعله بنصب العجل الذهبي وعبادته : " وقف موسى في باب المحلة وقال : من للرب فإليَّ " ( خروج : 32 / 26 ) . فالتف حوله جميع بني لاوي وأتمروا بأمر موسى فقتلوا عبدة الأصنام بغض النظر عما اذا كانوا أقارب أم أصدقاء أم حتى أعضاء من أقرب الأقارب . وبعدما فعلوا ذلك دون تردد قال لهم موسى : " لقد أعطيتم أنفسكم اليوم التنصيب [ حرفياً : املأوا أيديكم اليوم للرب ] لتكونوا كهنة يهوى " ( خروج : 32 / 29 ) .

 

          وفي خطوة تابعة عيَّن موسى هارون وأولاده كهنة ( بالمعنى الأدق للكلمة ) ( وهذا ما يبدو مستغرباً بعض الشيء ، ذاك ان هارون هو الذي سمح بعبادة الأصنام ، لا بل شارك أيضاً جزئياً في اقامتها ) . ويُلبس موسى نفسه الهارونيين لباسهم الكهنوتي ويمسحهم بالزيت لوظيفتهم . وبعد ان تمَّ ذلك لهارون وأيضاً لاخوته ، يقول موسى : " فيكون لهم كهنوت فريضة أبدية " ( خروج " 29 / 9 ) . ثم يأمر موسى بإقامة هيكل دائم ويعلن عن قدسيته بالغة الأهمية ( خروج : 29 / 37 ) .

 

          اذاً كان موسى هو أول من أدخل الكهنوت والمذبح الدائم ( مع فرض الضحايا ) على الإسرائيليين . بالطبع كان موسى يعرف تقديم الضحايا والكهنوت عند المصريين . اما من عهد الآباء وحتى عهد موسى لم يعرف مثل ذلك في إسرائيل . وبهذا وضع الأساس للتطور نحو اللاويَّة

ووظيفة الكاهن .

 

17

 

          الفصل المظلم في حياة موسى هو فصل أوامر الإبادة والتحريم وتنفيذها ، وهنا بالذات يظهر موسى كلاوي حقيقي . فالأمر الذي صدر للإسرائيليين من نسل لاوي بقتل كل من عَبَد العجل كان مقدمة لأوامر التحريم القادمة . يتخذ موسى مرجعاً له الوعد الذي سبق وأعطاه الله لإبراهيم ان نسله سوف يملك الأرض التي وعد بها ، وقد فهم موسى من هذا ان هذا الوعد لن يتم إلا بإبادة _ وليس فقط بها ! _ الشعب الكنعاني . وهذا هو نص الأمر ( المزعوم ) الذي آتاه من الله : " وتأكل كل الشعوب الذين الرب إلهك يدفع إليك . لا تشفق عيناك عليهم ولا تعبد آلهتهم لأن ذلك شَرَك لك " ( تثنية : 7/ 16 ) ويصدر موسى أوامر للإسرائيليين بهذا المعنى : " تمحو ذكر عماليق من تحت السماء . لا تنسَ " ( تثنية : 3/ 2 ) . ويذكر موسى في شيخوخته :  " وأخذنا كل مدنه في ذلك الوقت وحرَّمنا من كل مدينة الرجال والنساء والأطفال . لم نبقِ شارداً . لكن البهائم نهبناها لانفسنا وغنيمة المدن التي أخذنا " ( تثنية 2/ 34 _ 35 ) .

 

          هنا يقف موسى حقاً في خط لاوي ، مؤسس عشيرته . لنذكر هنا ما سبق وقلناه وشرحناه في فصل سابق ، أن لاوي ، ومعه شمعون ، هو الذي حَنِث بعهد الختان الذي عقده يعقوب  مع السيخميين حينما كان الشعبان يريدان إقامة علاقات عائلية فيما بينهما ، وكان ذلك الحنث في اللحظة التي أصبح فيها السيخميون نتيجة للختان غير قادرين على القتال فقتل لاوي جميع الرجال والنساء والأطفال من سيخيم . وبحسب نوايا يعقوب ان العهد السلمي مع أهل سيخيم يجب أن يكون اول استيلاء على أرض ، لذا اشتد غيظاً على فعلة لاوي _ إلا انه لا يظهر يوضوح ما إذا كان غضب بسبب فعل لاوي حقاً أن بسبب ما سوف يترتب عليها . أما موسى فيواصل سياسة الإبادة هذه بشكل أعم ، مدّعياً دوماً بأنها بأمر من الله ؛ وهكذا سيعمل يشوع أيضاً من بعده .

 

          يبقى انه من غير المقبول إطلاقاً ان يكون الله قد أمر بذلك ؛ ففي ذلك تناقض فادح مع الوصية التي جاءت من الله على لسان يسوع : أحبوا أعداءكم ! وأرجع سيفك إلى غمده ! ومع أوامر التحريم يسقط إسرائيل مرة أخرى إلى القاع ، وفيما يتعلق بهذه النقطة يسقط إلى ما تحت المستوى الذي وصل إليه يعقوب .

 

          وحينما قارب يعقوب الموت جمع ابناءه من حوله ليحرضهم على التمسك الذي لا يتزعزع بالإيمان بالله الواحد ، وهنا قال لشمعون ولاوي : " شمعون ولاوي اخوان . آلات ظلم سيوفهما . في مجلسهما لا تدخل نفسي . بمجمعهما لا تتَّخذ كرامتي . لانهما في غضبهما قتلا إنساناً وفي رضاهما عرقبا ثوراً . ملعون غضبهما فانه شديد وسخطهما فانه قاس ! " ( تكوين : 49 / 5 _ 7 ) . وبهذا نرى ان فكرة الإبادة ملعونة من قبل إسرائيل نفسه ؛ وعلى الرغم من ذلك فقد تبناها أبناء لاوي ويشوع .

 

          كتب يوهان غوتليب فخته في عام 1812 : " لو قلت ان ضميرك يملي عليك أن تبيد شعوباً ، عقاباً على خطاياهم ، . . . لاستطعنا ان نقول لك بكل ثقة انك مخطئ ؛ لان مثل ذلك لا يمكن ان تُؤْمَر به قدرة حرة وأخلاقية " ( علم الأخلاق 1812 ؛ طبعة اكاديمية برلين ، المجلد 2 ، 13 ، ص 368 ) .

 

18

 

          وحينما ربط موسى مبدأ ( شمعون و ) لاوي بالوصيتين الثانية والثالثة ، نتج عن ذلك المبدأ شديد الخطورة : مبدأ الملْكية المتفرّدة بإطلاق .

 

          ان الوصية الثانية ، كما جاءت من إبراهيم ، تأمر بتفرّد الديانة الحقة ، أي تفردها بعبادة اسم الله ( العادل ) وليس تفرداً مطلقاً لشعب مختار بوجه جميع الشعوب الأخرى . انني أقول بكل حرص : التفرد المطلق : ولا شك في أنه لا يستطيع أحد ان ينتمي إلى العهد ما لم يعترف ايماناً وفعلاً بالإله الواحد ، وذلك بسبب سلامة العهد ومصلحته العليا . ففي هذا لا بد من التفرد . غير ان الوصية لا تأمر بطرد آخرين ممن يريدون المشاركة في العهد ؛ وهذا ما يوثقه عهد يعقوب مع السيخميين . ومن هنا لا يمكن أن يقال مسبقاً : لا يمكن ان يوجد أنصار . صحيح ان الله قد وصف الكنعانيين بأنهم فاسدون إلى أبعد الحدود ؛ غير ان الأرض الموعود بها لم تكن على الإطلاق مسكونة من الكنعانيين وحدهم . ألَم يسكنها مثلاً السيخميون الذين قتلهم لاوي و شمعون بنقضٍ للعهد ، كما ورد في رواية الصيغة السبعينية للكتاب المقدس ، على الأقل . والحوريون ، أي غير الساميين الذين أتوا من آسيا الصغرى ؟ أما ان موسى قد وسَّع أمر التحريم بحيث يشمل هؤلاء أيضاً ، فهذا ما يدل عليه تصرفه شرقيَّ نهر الأردن .

 

          ان القرار الموسوي ينفي جميع الشعوب الأخرى في الأرض المقدسة بذات الفعل ، كونهم موجودين فيها ، ينفيهم إلى خارج العهد وذلك بالتطابق التام مع ما أراده لاوي . ولكن بعد ذلك ، أي في عهد القضاة كان يُخالف هذا الأمر بين الحين والآخر ؛ إلا ان ذلك كان يحدث في أوقات غير منتظمة . وبقيت القاعدة تلك التي أعطاها موسى وهي : تحريم كافة الشعوب المقاومة لاحتلال الأرض المقدسة وإبادتهم .

 

          لكن الدين والدستور الموسوي هما دين قانون ، ودستور قانون . والصفة المميزة للقانون هي ان يكون نافذ المفعول لدى الجميع وبشكل دائم . ومن هنا أي فيما وصل إليه الأمر ، أصبح التفرد الطابع الدائم بالمعنى الذي قال به لاوي .

 

          كانت تلك الملكية لا تزال ملكية الله . ولم يكن قد خطرت ببال موسى مرة تلك الإمكانية المغرية التي بدأت بفعلة يعقوب ، ان يسرق ملكية الله ويجعلها ملكية الشعب نفسه . ولكن حتى فيما يتعلق بملكية الله يصح عنده ان جميع الشعوب الأخرى بما هي كذلك يجب منذ البداية ان تكون مقصاة من الانتساب لله . لكن اليهود ، وبعد ان سلَّموا يسوع إلى الرومان قد نقضوا العهد مع الله واستولوا على كرمه على انه كرمهم هم ، وبهذا أصبح إقصاء الشعوب الأخرى المطلق موقف اليهودية ( الرابينية ) القائم حتى اليوم وبشكل مختلف كلياً ؛ ومنذ تلك اللحظة أصبحت المُلكية المقصية بإطلاق وقد سرقت من الله مُلكاً لها بوجه جميع شعوب الأرض .

 

          وقد ظهر ذلك في زمن يسوع حينما رفضت اليهودية تبشير الشعوب ، وللسبب عينه كانت تبغض رسالة المسيحيين . وديانة يسوع اضحت مرفوضة لديهم لهذا السبب بشكل خاص . وليس من باب الصدفة ان يكون هذا البغض قد أوصلهم إلى ارتكاب اول جريمة قتل لمسيحي وهو الشماس اسطفانوس ، والشمامسة بالذات هم الذين كانوا يضّلعون بمهمة التبشير ( على عكس الرسل ) بموجب رتبتهم .

 

          ومع تدمير أورشليم على يد الرومان وطرد اليهود من المدينة أضحت قضية التبشير أكثر سخونة . وبدأت تبدو ملامح خطر هائل وهو ان كثيرين من يهود الشتات سوف يبدأون منذ الآن بالتبشير . فالهيكل كموضع عبادة دون غيره لم يعد قائماً . وعلى الرغم من ذلك وحتى في تلك الفترة ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم بقي اليهود بعامة متمسكين بمبدأ الملكية المقصية بشكل مطلق ، وهذا ما يعطي اليهودية منذ موت يسوع طابعها الفريد في العالم كله . وقد قامت الصهيونية بسلب هذا القانون الطابع الديني ( علْمَنَتْه ) لكنه بقي . وفيها أفصح عن معناه الحقيقي .

 

          وبما ان الشعب اليهودي شعب صغير ، وهو بالتالي لا يستطيع ان يسيطر مباشرة على العالم ، لذا كان لا بد من ان تدمج الإقصاء المطلق من الملكية مع مبدأ يوسف ، اذا كان له ان يبقى على الحياة . فاليهود الرابينيون أضحوا " شعباً " بمعنى خاص كلياً لكلمة " شعب " ؛ لقد أضحوا شعباً يعيش ، نعم ، في الشتات او في العزلة ، لكنه مع ذلك يشكل وحدة من نوع خاص بواسطة قاعدة الملكية المقصية باطلاق . لقد أضحى " شعباً " ليس شعب الله ، وانما شعباً بوجه جميع شعوب الأرض الأخرى . وبهذا الموقف بالذات بقي اليهود ( الرابينيون ) ابناء للاوي وموسى .

19

 

          وتبقى ناحية هامة جداً من عمل موسى بحاجة إلى توضيح ، وهي على صلة بما تبقى : لقد أعطى موسى دين إبراهيم دستوراً . ولا يصح ان يخلط بينه وبين الدستور الديني _ الاجتماعي الذي للشعب ، حيث يقع الإيمان بالله الواحد على رأس الوصايا ، لكنه بعد ذلك ، ينظم إلى حد كبير سلوك أبناء الشعب تجاه بعضهم البعض . لكنني اعني هنا ذلك الدستور الذي جعل من الإسرائيليين جماعة عبادة . تجهيز مختلف أنواع الذبائح ، وتجهيز مهنة الكهنة ( ومن هنا مهنة اللاويين ) ، خيمة الله ، نظم يوم السبت ؛ كل هذا أعطى للدين دستوراً ثابتاً وجهَّزه بالمؤسسات أيضاً . إلا انه يصبح مع الأسف غير واضح لان ما ورد بخصوص الإسرائيليين واليهود يتكلم إما عن الهيكل او عن الكنيس . ولا شك في ان العبادة ومعها مؤسساتها أخذت تنحصر بعمقٍ في بيت _ إيل الواحد ، وهو ما سمي من بعد هيكل أورشليم . ومما لا خلاف حوله أيضاً انه مع سقوط الهيكل ، لا بل حتى منذ بُعده الشاسع عن خدمة الكنيس بما هو القسم الآخر من المؤسسة الذي كان يلعب الدور البديل للهيكل الذي أصبح بعيد المنال . إلا أنهما معاً وبكثرة متزايدة من القوانين التطبيقية للوصايا العشر ، التي  جاءت بدون شك بهذه الكمية نتيجة لقرون من تطور جماعة العبادة ، والتمركز في مؤسسات معيَّنة أيضاً ليست سوى مظاهر جزئية _ من الديانة المقنَّنة . وإذا أخذنا القسمين معاً نجد ان الكتاب المقدس يتكلم عن " إسرائيل " ؛ غير ان هذه التسمية تستخدم أيضاً في الكلام عن شعب إسرائيل . ومهما كان عدد ما تمَّ إدخاله خلسةً عبر قرون إلى الأسفار الأربعة ، يبقى ان صُلْب قوانين العبادة وما نتج عنها من مؤسسات هو من أصل موسوي . ويظهر بأوضح مظهر كم كانت تبعات إنشاء جماعة العبادة هذه ( إسرائيل ، هذا ) مترسخة ، في الشكل الذي أعطته الكنيسة لنفسها بعد صلب المسيح بقليل . دخلت المعمودية بديلاً عن الختان ( الآتي من إبراهيم ) : ولكن ثمة شيء فريد بالنسبة للمعمودية . كانت معمودية يوحنا بمثابة توزيع حق شراكة في ملكوت السموات القادم ، الذي اقترب ظهوره ، والذي ستكون الدينونة الكبرى مرتبطة به . يسوع لم يعط هو بنفسه هذه المعمودية . إلا انه سمح لرسله الأوائل ان يقوموا بذلك ، حتى سجن يوحنا . لقد رأى يسوع ان قوام دعوته الخاصة يكمن في الخلاص وإقامة ملكوت الله على الأرض ؛ ولتحقيق هذه الغاية أرسل الرسل ، بعد ان رفعهم من مصاف التلاميذ ، في أول رسالة . أننا لا نجد أي ذكر للمعمودية في الأناجيل حتى قيامة يسوع . ولكن بعد ذلك ستصبح فعل  الدخول في جماعة العبادة التي بدأت تنشأ ، في الكنيسة . وتشكلت هذه الكنيسة بسرعة كبيرة واصبحت مؤسسة على غرار المؤسسة الموسوية تماماً _ ودام ذلك عبر آلاف السنين حتى اليوم . وفي هذا نرى الوزن غير العادي الذي أعطاه الإسرائيليون قبل ذلك لجماعة العبادة . وزاد من وطأة هذا الأمر ان اليهود في منفاهم والمسيحيين الأوائل لم يكن لديهم دستور دولة .

 

          غير ان شكل الجماعة الدينية التي تتمتع بدستور خاص بها يحتوي على خطر هائل : تحل العلاقة بجماعة العبادة المقنَّنة محل العلاقة المباشرة وذات الأسبقية مع الله ، على انها جوهرية ، لا بل جوهرية اكثر منها : يصبح الإيمان قبل أي شيء آخر إيماناً بجماعة العبادة المقنَّنة ، ومسيحياً ، ايماناً بالكنيسة . ويحدث هذا التحول بكل تأكيد دون ان يلاحظ ، إلا انه يحدث ! ويشعر المؤمن بأنه محتضن في جماعة العبادة ، محمول منها ، وانه أصبح مؤمناً بواسطتها وليس من الله مباشرة كما حدث لإبراهيم واسحق ويعقوب .

 

          و قد يصل هذا الانزلاق إلى حد تدنيس الحرمات : اما من أي نوع هو فقد وضحته السورة الثامنة عشرة من القرآن في مثل مناسب ، مَثَل جنَّتي الأعناب ، فقد أنعم الله على صاحب الجنة الأولى بكرم جميل مزهر ومثمر كان يأتي دوماً بغلة وفيرة . وكان يحب جنة كرمه إلى درجة انه " دخل جنته وهو ظالم لنفسه . قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً . وما أظن الساعة قائمة ولئن رُددت إلى ربي لأجدنَّ خيراً منها منقلباً " ( السورة 18 ، الآية 35 _ 36 ) أما صاحبه فراح يتهمه بأنه في قوله هذا ينكر جميل الله عليه ويشرك مع الله شيئاً ( مثل كثرة الآلهة ) . وان كرمه سوف يفنى . وهذا أيضاً ما حدث :

" وأُحيط بثمره فأصبح يقلِّب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها " ( السورة 18 ، الآية 42 )

 

          ماذا اراد القرآن ان يوضحه بهذا المثل ؟ نستطيع ان نحب حقل الكرم ، جماعة العبادة ( اسرائئيل  ، بالأحرى الكنيسة ) ، حباً لا حدَّ له إلى درجة اننا " نشركه " مع الله ، ونجعله مساوياً بالتمام مع ملكوت السموات . غير ان ذلك تدنيس للحرمات من منظور ديني .

 

          وفي المثل الذي أعطاه المسيح لم تكن السرقة التي قام بها أصحاب الكرم قد وصلت إلى حد سرقة الله ، الا انها دون شك عملية واضحة باتجاه التملّك _ وهيَ من وجهة نظر دينية ، ذات تبعات لا يعرف لها مدى .  المؤسسة الشكلية وحياتها ليست الشيء نفسه ، بل هي ليست أكثر من أداة في صيرورة الجماعة مع الله ، وهذا هو الدين الحق .

 

          وليس من باب الصدفة ان الدين لا يميز بكلمة " إسرائيل " ، بالأحرى " الكنيسة " بين شعب الله والمؤسسة القانونية ، في حين أنه في المجال الاجتماعي يميَّز بالتأكيد بين الدولة والشعب بفوارق لغوية تقوم على إختلاف نوعيتهما .

 

          ان يسوع بعد تأسيسه لكنيسته ( إنجيل متى : الفصل 16 و 28 ) لم يؤسس إلا القليل من أشكال المؤسسات : المعمودية ، ذبيحة العشاء وغفران الخطايا _ وواضح أنه أراد بذلك أن يبقي تجمدها بشكل مؤسسة مشاركة له ، تعلن نفسها في نهاية الأمر غاية لذاتها ، أراد أن يبقي ذلك في أدنى الحدود . لقد كان التطور السابق لجماعة العبادة اليهودية ، بما حملته من نتائج سيئة قام هو بالتنديد بها بحدة وشدة . كان ماثلاً للعيان كمثل يحذر يسوع ومعاصريه . كم من مرة نأخذ انطباعاً عن العهد القديم ، بأن تمجيد جماعة العبادة يصل إلى حد جعلها مطْلَقَة . اذكِّر هنا مرة أخرى بما أوردناه سابقاً عن سفر تثنية الاشتراع ، حيث يمجَّد تفرُّد إسرائيل وتميّزه عن الآخرين .

 

          ان دور الجماعة كان بالنسبة ليسوع أمراً ثانوياً دون أدنى شك . ولكنه أصبح على العكس تماماً لدى الرسل والتلاميذ بعد موته وصعوده إلى السماء . وبهذا بالذات دخلت الكنيسة منذ البداية في صراع مع اليهودية ، كان فيها الصراع يدور  لهدى الطرفين بشكل أساسي حول مهمة وأهمية الجماعة . وحول هذه النقطة بالذات قام الخلاف الأول بين اليهود والمسيحيين . ان سرقة الله التي تمَّت بتسليم يسوع إلى الموت من قبل اليهود لم توضع بالتأكيد بكل حدتها أمام أعين اليهود ( هذا ان تم وضعها بشكل عام ) ، الذين آتى إليهم الرسل والتلاميذ المبشرون ، وكذلك أيضاً مسألة الأمانة جماعة العبادة التي لا حدَّ للقبول بها ومحبتها . لم يكن (إسرائيل ) ليتخلّى عن نفسه ؛ اما الإيمان بالله الواحد فلم يشقَّ بين الطرفين : الإسرائيلي والمسيحي ؛ وألوهية المسيح لم تكن بعد ولمدة طويلة موضوع خلاف عقائدي .  

___________ . ___________

 

20

 

          واصبح موسى أيضاً فيما يتعلق بإقامة مؤسسه جماعة العبادة أول صاحب مشروع كهذا في تاريخ الخلاص .  ولكن لا بد وأن نعترف بأن كل ما أبتدعه وأقامه في هذا المضمار يندرج تحت فكرة بيت _ إيل التي أُعطيت من الله ليعقوب . جماعة العبادة ( الهيكل ، الكنيس ) هو مكان سَكَن الله المؤسساتي في خيمة في إسرائيل .

 

          ولم يُعط موسى أياً من الأفكار الأساسية الدينية الخلاّقة والآتية من الله ، على غرار ما جرى للآباء من قبل . وفقاً لذلك لا نجد في حياته أي ارتقاء ؛ انه يتراجع بعيداً عن إبراهيم ، لا بل حتى عن يعقوب . ذاك انه ، وبغض النظر عن ان هذا الأخير قد أُعطي فكرة بيت _ إيل ، إلا ان موسى هو الذي أخذ بشكل كامل فكرة امتلاك الأرض التي وُعد بها إبراهيم ونسله بالمعنى الذي أخذها به جده لاوي وذهب إلى أبعد منه فضيَّقه وأوصى من هنا بان يكون محصوراً على الإطلاق ضمن ملكية خاصة وبشكل لم يعد يتواءم مع إرادة الله في وعده لإبراهيم . فإذا جعلنا من موسى تلك الشخصية الحاسمة بالنسبة للإيمان بالاله الواحد وعلاقة العهد معه ، فسوف نحصل عندئذ بالضرورة على فهم مختَزَل لدين إبراهيم يصل إلى حد إفساده . ولم يكن المسيحيون الأوائل على خطأ ، بل انهم وبفهم عميق كانوا ينظرون إلى أعضاء الجماعة المسيحية الأولى في اورشليم ، ولهذا السبب ، ليس على انها إسرائيل ( الحقيقي ) بل على أنهم عبرانيون !

__________ . __________

 

21

 

          ولننظر إلى أعمال يسوع كما تراها الرسالة إلى العبرانيين مقارنة بأعمال موسى : " كان موسى أميناً أيضاً في كل بيته " . ويسوع أكمل تضحية نفسه الخلاصية بصفته رئيس الكهنة . كان موسى أميناً في الشهادة لما وعده الله به وفي إتمامه له . " واما المسيح فكابن على بيته " . ( عبرانيين : 3 / 2 _ 6 ) . لقد حقق موسى ما طلبه الله من إبراهيم ، ولكن ليس دون خطأ .

 

          ولنتذكر مع كاتب الرسالة إلى العبرانيين قسوة قلب موسى عند المشاجرة قرب مياه مريبة ومسَّة . لقد شكَّ موسى بأن الله وحده يستطيع أن يروي شعبه بطريقة فائقة الطبيعة ، انه هو وهو وحده " صخرة خلاصنا " . لقد شك إذاً في أنه يمكن أن يحصل ذلك دون اللجوء إلى إنزال قوى بشرية إضافية . وتُحيل الرسالة إلى العبرانيين بحق سلوك موسى إلى ما ورد في المزمور الخامس والتسعين :

" اليوم ان سمعتم صوته فلا تقسّوا قلوبكم كما في مريبة

مثل يوم مسَّة في البرية ، حيث جرَّبني آباؤكم . اختبروني .

أبصروا أيضاً فعلي . أربعين سنة مقتُّ ذلك الجيل وقلت هم شعب ضال ، قلبهم وهم لم يعرفوا سبيلي . فأقسمت في غضبي لا يدخلون راحتي " ( مزامير : 95 / 7 _ 11 ) .

 

          وكما ان موسى في مسَّة لم يؤمن بأنه بفعل الله وحده سوف تنبع المياه التي تروي شعبه ، ولذا لم يُبقِ للعناية الالهية وحدها أمر استيلاء الإسرائيليين على أرض الميعاد . فلجأ ، كابن حقيقي للاوي ، لجأ إلى سبيل إبادة الشعوب المقيمة هناك . وهنا لم يعرف طرق الله ، لا بل هجرها . وقد عاقبه الله بأن حرمه ومعه الإسرائيليين الذين أخرجهم من مصر ، من دخول الأرض الموعودة ، وهذا هو المعنى الروحي لكلمة " راحته " .

 

          نعم لقد دخل أولادهم بعد ذلك إلى الأرض ، إلا أن أوامر الحرمان رافقتهم طيلة مسيرتهم ، حرمان لم يرفعه ( يسامح به ) الله عن موسى . وفي أيام القضاة وحتى داود ثم الملوك من بعد سليمان بقي الإسرائيليون عند هذه الجريمة البشعة والمدنَّسة وسقطوا نتيجة لذلك أكثر فأكثر في اطلاقية فكرة مُلْكيَّتهم .

 

          لم يصدر الله هذا الحكم على موسى مصادفة . وقد شغل هذا الحكم فكر الإسرائيليين على امتداد تاريخهم اللاحق دون انقطاع ، وبالتأكيد لم يخبر كتَبَة الأسفار الأربعة بخطيئة موسى هذه بارتياح القلب . ويبقى أمراً واقعاً لا محالة ان موسى قد أخطأ وان الله عاقبه على ذلك . وقد حرمته خطيئته من ان تجد إرادته ونفسه الطريق إلى السلام .

 

          لقد كان لقساوة قلب موسى نتيجة ، مفادها انه لم يترك للله ببساطة ، حينما ظهر له انه يستحيل عليه _ من منظور بشري _ أن يقوم هو وحده بالإستجابة الكاملة لمطلبه ، بل وجد أنه من الضروري ان يستعين بقوى أخرى ؛ في حين ان يسوع في ليلة آلامه قد ترك للله وحده إتمام عمله ، علماً بأنه كان بامكانه ان يلجأ إلى قوات سماوية لتساعده على ذلك . لقد دخل بوابة الموت الذي تغلب عليه ، في حين لم يستطع موسى والإسرائيليون الذين لم يرضوا بالقضاء ، الدخول إلى الأرض المقدسة .

 

          انه لا يحق ولا يمكن من موقع الإنسان الحكم على فعل موسى بشكل نهائي . وكما يقول الرسول يهوذا في رسالته ، " وأما ميخائيل رئيس الملائكة فلما خاصم ابليس محاجاً عن جسد موسى لم يجرؤ أن يورد حكم إفتراء " الذي كان سيعادل تجديفاً ، " بل قال : لينتهرك الرب  " ! ( رسالة يهوذا : آية 9 )

__________ . __________

 

 

 

استطراد أول

         

في سفر الخروج ، يعطي الله لدى ظهوره في العلّيقة المحترقة لموسى القوة لصنع معجزتين ، كان عليه أن يفعلها أمام المصريين كي يقنعهم بأن الله هو الذي أرسله ليطلب تحرير الإسرائيليين : معجزة العصا المتحولة ومعجزة اليد المتحولة .

" فقال له الرب : ما هذه في يدك . فقال عصاً . فقال اطرحها إلى الأرض . فطرحها إلى الأرض . فصارت حيّةً . فهرب موسى منها . ثم قال الرب لموسى مدَّ يدك وأمسك بذنبها . فمدَّ يده وامسك به . فصارت عصاً في يده " ( خروج : 4 / 3 _ 4 ) " ثم قال له الرب أيضاً أدخل يدك في عبك . فأدخل يده في عبه . ثم أخرجها وإذا يده برصاء مثل الثلج . ثم قال له ردَّ يدك إلى عبك . فردَّ يده إلى عبه . ثم أخرجها من عبه وإذا هي قد عادت مثل جسده " ( خروج : 4 / 6 _ 7 ) .

 

وقد فعل موسى معجزة العصا المتحولة أمام فرعون بواسطة هارون كما جاء في الأمر الإلهي . لكن فرعون استدعى بعد ذلك سَحَرته " ففعل عرَّافو مصر أيضاً بسحرهم كذلك " ( خروج : 7 /11 ) " طرحوا كل واحد عصاه فصارت العصيّ ثعابين . لكن عصا هارون ابتلعت عصيهم " ( خروج : 7 / 12 ) .

 

ان استخدام سحر كهذا من أجل الوصول على تحرير الإسرائيليين من العبودية يبدو لأول وهلة شديد الغرابة . ولكن يبدو انه من الممكن جداً أن يكون موسى قد تعلَّم أثناء إقامته الطويلة في جبال سيناء قد تعلّم سحر الحيايا ، وذلك بالموسيقى والتعويذ ، مثلاً بتنويمها على لحن المزمار ولربما أيضاً باستخدام أنواع غذائية معيَّنة أو أشياء أخرى . ولكن يبقى السؤال : لماذا أمر الله موسى استخدام هذا السحر بالذات كبرهان . وكما رأيت بعيني حينما كنت في الهند فان سحر الحية هذا قوامه ان جسمها يصبح مشدوداً وصلباً مثل العصا . وفي خبر سفر الخروج جاء أن العصا الصلبة قد أصبحت حيةً تتلوى ثم عادت فصارت عصا . والأمر الآخر الذي يبدو غامضاً على الشرح هو البرهان بواسطة اليد التي تحولت برصاء ثم عادت إلى حالتها العادية .

 

ويعطي القرآن في السورة العشرين شرحاً لافتاً للنظر لما ينبغي ان تعنيه هاتان المعجزتان : إنهما يجسدان قدرة الله الخلاقة التي لا حد لها : " من الأرض خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارةً أخرى " ( الآية 55 ) . فمعجزة الحية والبرص ترمز إلى هذه القوة الخلاقة . اليد تصبح بيضاء من البرص ثم تعود سليمة ، والعصا تتحول إلى حية تتلوى زاحفة ثم تعود لتكون عصا . وفي هذا تعبير غير مصرح عنه ، ان الله الذي يستطيع ان يعيد الميّت إلى الحياة ، يستطيع أيضاً ان يقيم شعب إسرائيل من موت العبودية إلى الحرية .

 

ومن المفترض هنا ان فرعون كان يخاف من قوة السحر ؛ والسحر كان على إطلاع دقيق وصاحب سلطة على حياة الحيوان ، او بالحري على الحياة السليمة او التي في حالة مرض . وموسى وهارون يوثّقان هذه المواهب العقلية . غير ان هذه المعجزات لم تكن قوية بما فيه الكفاية بحيث تعطي المرجو منها ؛ وعلى الأرجح ان فرعون قد اعتبر فعل موسى نوعاً من السحر لم يكن هو مطلعاً عليه ، خاصة أن حية موسى قد ابتلعت " ثعابين " السحرة المصريين ، هذا بقي بالنسبة إليه في معناه الرمزي غير مفهوم ، وهو  أن قوة صنع المعجزات تفني السحر الكاذب .

 

والحية تبقى في نظر الإنسان رهيبة لأنها تهاجم بسرعة البرق من مختلف الجهات وتتلوى بمهارة سائرة نحو هدفها . وهذه الصفة الأخيرة هي التي قد تكون في أساس كره المرأة للحية ومكرها . وتقتل لدغة الحية بالسم الذي تكون قد جمعته لهذا الغرض من تكون قد قرصته . ومن ناحية أخرى نرى كيف يستخدم سم الحية مضاداً لمواد مؤذية أخرى ؛ ومن هنا جاء إعلاء القدامى المتكرر لقوته الشافية واستخدام الأطباء له .

 

أما في المعجزة التي صنعها موسى فإن العجب الخاص هو في إعادة تحول الحية إلى عصا . الحية الملتوية بمهارة على الأرض تعود لتصبح عصا صلبة ؛ ولم يستطع السحرة المصريون فعل اعادة التحويل هذه . ان معجزة موسى قد أفنت سحرهم .

 

وقد تم أيضاً تحول مثيل للحية الملتوية إلى صلبة أثناء مسيرة بني إسرائيل في الصحراء . لقد أرسل الله للإسرائيليين المتذمرين " الحَّيات المحرقة " ( أي " التنانين " ) ومات الكثيرون من لدغتها . وبعد ذلك صنع موسى حيَّة من معدن خام ونصبها ( " رفعها " ) كعلامة . ومن لدغه تنين ونظر إلى هذه العلامة كان يشفى ( سفر الخروج : 21 / 6 _ 9 )

 

الحيَّة النحاسية هي الحية التي تحولت إلى عصا صلبة : أما تلك المبلبلة والمحيّرة بتلويها ، تلك التي ترفع جسمها وتنقضُّ فقد أعيدت إلى حال واضح جلي و " رُفعت " من قبل موسى . وهذه العودة إلى الوضوح هي التي تستطيع شفاء الإسرائيليين المصابين . ولا بد من الاعتقاد بأن موسى قد عالج الحية نفسها . وبخصوص حيَّة يورايوس ( حية صغيرة ) المعنية هنا بشكل خاص والتي يكثر وجودها في شبه جزيرة سيناء ، حينما يقبض عليها من رقبتها يؤدي ذلك إلى تصلبها . وقد يكون موسى قد صبها من نحاس بهذا الوضع ورفعها . ولكن كيف نقترب من فهم التأثير الشافي الذي يأتي على من ينظر إلى الحيايا المرفوعة ؟  لنلاحظ بداية أن فعل النظرة الشافية للمقتول قد ورد ذكرها مراراً في الكتب المقدسة . فالرسول يوحنا كتب في إنجيله : " وسينظرون إلى الذي طعنوه " وهو يشير بذلك إلى كلام يسوع حول رفعه مثلما رُفعت الحية النحاسية ( يوحنا : 3 / 14 _ 15 ) . لا بل أكثر من ذلك : في السورة الثانية من القرآن يأمر موسى بذبح بقرة للتكفير عن عبادة العجل الذهبي ، بقرة لا عيب فيها يضحون بها ويرفعونها . وتذبح هذه البقرة للتكفير عن خطايا " أولئك الذين سينظرون إليها " ( الناظرين ) ( سورة البقرة : آية 67 _ 73 ؛ خاصة آية 69 ) .

 

وقد يلقي بعض الضوء على ما يمكن أن تعنيه النظرة إلى موت الضحية ، أو بالحري الضحية الميتة ، ما جاء في الخبر عن إعدام بالدواليب ( آخر إعدام تمَّ في القرن الثامن عشر في مقاطعة النورماندي ، الذي سمع به باربي من أورفيلي حينما كان صبياً وكتب عنه بعد ذلك ، في : " كاهن متزوج " ، الفصل العاشر ) . أمام منظر الموت ( بالحري : أمام رؤية وجه الميت ) " يعيش " الناظر موته وكأنه موته هو وهو ليس موته ، بل موت ذاك الذي انزلت به عقوبة الموت . ولكن هذا هو بالضبط ما يعيشه المضحّي أثناء تضحية من يكفَّر بدلاً عنه بالموت .

 

وتلعب الحيَّة الدور الرئيسي في حالة الخطيئة الأصلية . لقد كانت " أكثر مكراً " من سائر الحيوانات الأخرى التي خلقها الله . فحينما أقدمت على تجربة حواء أعطت أمر الله ، بألاَّ تأكل هي وآدم من ثمرة شجرة المعرفة ، معنى ملتبساً ونسبت خلسة إلى  الله قصداً غير الذي كان مقبولاً به . ان هذه الإزدواجية او التعددية في المعنى ، في المجال الروحي هي التجلي لعدم القدرة على رصد مكان حركات الحية في المجال الطبيعي ؛ إنها وليدة النصب والإحتيال .

 

نرى من كل ما تقدم أن الصراع بين الإنسان وجوهر الحية هو ظاهرة متواصلة في التاريخ القديم . ونجد على تاج فرعون مصر حيتين اوريسيتين ( صغيرتين ) ، يبدو وكأنها وضعت من أجل حمايته .

 

وفي حديثه الليلي مع نيقوديموس يربط يسوع بين فعل الخلاص الذي سيقوم به وبين الحية النحاسية التي نصبها موسى : " كما رفع موسى الحيَّة في البرّية هكذا ينبغي ان يُرفع ابن الإنسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية " ( يوحنا : 3 / 14 _ 15 ) .

 

ولنلاحظ أنه في الوقت الذي كان فيه حزقيا ملكاً على اليهودية ( 687 _716  ق . م   ) كانت لا تزال فئة من الشعب تكرم الحية النحاسية . وقد حطَّم حزقيا هذه الحية النحاسية التي نصبها موسى . وفي الخقيقة إن الإسرائيليين كانوا يقدّمون لها الضحايا حتى ذلك الحين . وكانوا يدعونها " نَحُشْتان " ( الملوك الثاني : 18 / 4 ) .

 

كانت الحية في تلك الأزمان الغابرة ، حينما كان باستطاعة الإنسان أن يتماهى مع الحيوان بصيغة مختلفة كلياً عما هي عليه اليوم ، كان يعتبر الحية كأخطر الحيوانات من نواحٍ عدة . فمن كان يسيطر عليها ، مثل موسى ، لا بد وانه كان ينظر إليه على أنه يملك قدرات فوق طبيعية خارقة . وبالمعنى المماثل تقع الحية مكان الشر ، الذي ، على شاكلتها ، يبلبل ويربك من يقف بوجهه ( شيطان ! ) ثم " يضبطه " بسرعة البرق وهو في هذا الوضع : اما السيطرة على الشر ، التي تظهر في السيادة عليه فتبشر ب " الخلاص " في لحظة إفنائه أو بالحري الفناء به .

 

وبالمناسبة ، لم يفعل موسى معجزة شفاء اليد البرصاء أمام فرعون ، وإنما اثناء السير في الصحراء وكانت اليد يد اخته مريم بعد ان كانت قد تكبَّرت عليه . ( اعتقدت أنها على درجة واحدة مع موسى فيما يخص مكانته من النبّوة ) . لقد نزل عقاب البرص بمريم وبقيت طيلة سبعة أيام مفصولة عن الجماعة ، أي إلى ان شفاها موسى منه . وحينما طلب موسى إلى الله أن يتم شفاؤها قال له الله : " ولو بصق أبوها بصقاً في وجهها أما كانت تخجل سبعة أيام " ؟ ( عدد : 12 / 14 )

 

__________ . _________

 

الاستطراد الثاني

 

السمكة الفارَّة الهاربة

 

          جاء في سورة الكهف ( السورة ، الآيات 62 وما يتبع ) خبر رحلة قام بها موسى . لقد أراد موسى ان يبلغ مجمع البحرين . وبعد هذا الخبر يأتي مباشرة خبر ثانٍ ( السورة 18 ، الآيات 65 وما يتبع ) فيه ان موسى وجد نبياً للله فطلب منه ان يرشده إلى الطريق المستقيم . وعادة ما يجمع الخبران تحت عنوان : رحلة موسى .

 

          وعند ظني اننا هنا أمام روايتين مختلفتين لا علاقة للواحدة بالأخرى وقد جمعتا سوية بطريقة مفتعلة ؛ وهذا ما نعرفه حينما نرى أن "خادم " موسى كان معه في الجزء الأول من الرحلة ، أما في الحدث الثاني فلا يلعب أي دور ويختفي بكل بساطة .

 

          اما ما آخذه بعين الاعتبار هنا وبعد الملاحظة السابقة حول الفرق بين الروايتين ، فهو فقط الرواية الواردة في السورة الثامنة عشرة ، الآيات 62 _ 64 . جاء في هذا الموضع :

          " واذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى ابلغ مجمع البحرين

          أو أمضي حقباً . فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما

          فاتخذ سبيله في البحر سرباً . فلما جاوزا قال لفتاه

          إتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً . قال

          أرأيت اذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما

          أنسانيه الا الشيطان ان أذكره واتخذ سبيله في البحر

          عجباً . قال ذلك ما كنا نبغي . فارتدَّا على اثارهما قصصاً "

وما لهذه الرواية من معنى ؟ ولماذا تذكر على انها موحاة من الله ؟

 

          لو فهمنا ما ورد بطريقة التماثل لجاء المعنى كالتالي :

          ان مجمع البحرين الذي يبحث عنه موسى ، حتى ولو كان سيقضي سنوات عديدة من اجل تحقيق ذلك ، ليعني في حقيقة الأمر التلاقي بين التيارين اللذين نبعا من إبراهيم ، الإسرائيلي والإسماعيلي ، يعقوب واسماعيل .

 

          ولا تعني السنوات الكثيرة التي سيحتاج إليها لكي يرى هذا التجمع قد حدث سوى الجهود الممتدة على سنوات طويلة لكي يُدرَك امر هذا الاتحاد الممكن بين التيارين ، أي لكي ينفّذ بمعناه الحقيقي بمساعدة الروح ( القدس ) .

 

          ولكن بانهماك موسى وخادمه في امعان الفكر في هذا الاتحاد وبذل قصارى الجهد حوله ورؤيتهما له قد نسيا ( ولربما يكون الخادم وحده ) السمكة التي كانا قد اصطاداها لتغذيهما . والشيطان _ هكذا تقول الرواية _ هو الذي جعل موسى ، وهو يتطلع إلى ذلك الاتحاد ، ينسى السمكة كي لا يعود يفكر فيها .

 

          كان موسى وخادمه يريدان ان يتغذيا من هذا الصيد بعد ان أنهكهما الطريق الذي رأيا في نهايته الاتحاد . ولكن حينما أهملا الاهتمام به ، فقداه من بين أيديهما .

 

          كانت السمكة في المرحلة الأولى من التتلمذ ليسوع ( قبل العشاء السري ) رمز السيد ؛ هي تمثل يسوع نفسه ، " الطعام الحقيقي " الذي يفتح لمن يأكل منه السعادة الأبدية . هذا الغذاء نسي إبراهيم وخادمه ان يتناولا  منه بسبب معجزة رؤيتهما لاتحاد البحرين .

 

          وهذا يعني بالتماثل : انهما رأيا وأدركا الاتحاد ، دون يسوع فيه ؛ لقد نسيا السمكة الحقيقية التي كان عليهما ان يأكلاها عند بلوغهما نقطة اتحاد البحرين هذه .

 

          يقول موسى متهكماً : " ذلك ما كنا نبغي ! " وهذا يعني انهما لم يعثرا عليه ؛ لذلك كان عليهما أن يعودا على أعقابهما ويبحثا من جديد عن الموقع الذي كان ينبغي عليهما ان يجدا فيه اتحاد البحرين ، لكنهما لم ينظرا اليه . ذاك ان هذا الاتحاد وامكانيته وحقيقته هي في يسوع .

 

          سؤال : بما ان موسى يحل هنا محل محمد ، هل هنا في الأساس تفسير مسيحي بصيغة مَثَلٍ لم يُدْرك في القرآن ؟ اذا كان علينا فهم الرواية على هذا الشكل فلا بد عندئذ من القول ان ما ورد يحكم على نفسه بنفسه وهو لا يدري .

_________ . __________

 

الاستطراد الثالث

 

خاتمة إنجيل يوحنا

 

          يوصف الفصل الأخير ، الواحد والعشرون ، من إنجيل يوحنا بأنه خاتمة ثانية ( بالحري أخرى ) وحتى ملحق ، ويبقى الأمر مفتوحاً حول ما إذا كان يوحنا هو الذي كتبه ام أن تلاميذه قد فعلوا ذلك . لكن السؤال هو : هل هو من حيث محتواه جزء من الجسم العضوي لهذا العمل أم لا .

 

          يتبع الحدث المرويّ في هذا الفصل اعتراف توما في الفصل السابق بعد ان وضع اصبعه في جروح القائم من بين الأموات وقال : ان يسوع هو " الله " . فهل المراد هنا هو فقط الإخبار عن مجرد ظهور آخر ليسوع ام هو فصل يختم مجمل أفكار الكتاب ؛ هذا ما يجب ان يظهر من خلال محتواه . وإذا كان الوضع كما في الحالة الأخيرة فعندئذ لن يكون هذا الفصل مجرد ملحق .

 

          واللافت للنظر أكثر من أي شيء آخر في الفصل الحادي والعشرين هو ذكر عدد معين للسمكات التي تم اصطيادها بأمر من يسوع ، وهو العدد 153 . ولم نتمكن حتى اليوم من فهم ما وراء هذا العدد . ولكن من جهة أخرى نستطيع منذ البداية الإنطلاق من ان الأناجيل لا تخبر عن أشياء ثانوية لا قيمة لها ، خاصة وانها تعطي هنا عدد الأسماك : 153 . أما إذا قيل عكس ذلك ، فيكون هذا الفصل في الحقيقة قد كتب كملحق لبشارة يوحنا كتبته يد غير مؤهلة .

 

          لنضع كل إهتمامنا في فك لغز معنى ما حدث على العدد . فهو يعطي عدد الأسماك التي اصطادها بطرس ومن معه من التلاميذ بأمرٍ من ذلك الرجل المبهم الواقف على الشاطئ . لا شك انه يمكن تقسيمها على 3 ، لكنها ستعطي عدد 51 ، وهو عدد لا يفيد شيئاً هنا . فلماذا إذاً يُخبر عن عدد لا صفة مميِّزة له بشكل خاص ؟ لكن الشراح تجاهلوا ان الرجل المبهم ، حينما نزل التلاميذ إلى اليابسة بعد صيدهم ، كان بدأ يشوي سمكة على الجمر . فلدينا إذاً ليس 153 . بل 154 سمكة ! وغريب في الأمر أيضاً ان الرجل الغريب راح يسأل : هل عندكم سمك ، وهو مزوّد بالسمك . علينا إذاً ان نتابع البحث حول ما يمكن ان يوضحه الرقم 154 . 154 = 11* 7 * 2 و 11 * 7 يساوي 77 . ويأتي لهذا العدد مرة واحدة . وبالفعل مرة واحدة لا غير في الكتاب المقدس ، دور ذو دلالة فائقة . ونضرب مثالاً على ما وصل اليه البشر من شر مدقع في سلالة قايين قول لامك في الفصل الرابع من سفر التكوين ، الآيات 23 _ 24 : " وقال لامك لامرأتيه عادة وصلّة . اسمعا قولي يا مرأتي لامك وأصغيا لكلامي . فاني قتلت رجلاً لجرحي وفتىً لشدفي . إنه ينتقم لقايين سبعة أضعاف . وأما للامك فسبعة وسبعين " العدد 77 (5) يقف هنا شاهداً على أقصى أعمال الوحشية التي يقوم بها الشر . وحينما وقف رحبعام أمام الشعب _ بعد وفاة سليمان _ ليتسلم السلطة الملكية ووقف الشعب أمامه طالباً تخفيف الأعباء الملقاة على عاتقه أجاب : " أبي ثقَّل نيركم وأنا أزيد على نيركم . أبي أدّبكم بالسياط وأنا أؤدبكم بالعقارب " ( ملوك اول : 12 / 14 ) وهذا الكلام الذي يبقى بعيداً  خلف كلام لامك  ، كان كافياً لكي يقيم بين إسرائيل وهذا الذي انتهى بحلول أسر بابل عليهم .

 

          يضاعف العدد 154 عدد أقصى أعمال الوحشية التي تكلم عنها لامك . لقد جعل يسوع من سمعان بطرس واندراوس وكذلك ابني زبدى صيادي الناس ز والناس الذين " يصطادونهم " ( أي يربحونهم إلى جانبهم ) سيكونون مسيحين ، أي أناس يحققون وصية المحبة التي أمر بها يسوع . وستكون محبتهم أقصى ما يمكن ان تكون عليه المحبة ، وسوف تُضاعف في فعاليتها نقيض الشر الذي يقوم به أسوأ ابناء قايين .

 

          وبين الأسماك ال 154 ثمة سمكة ، لم تكن حاجة إلى اصطيادها وإنما كان الرجل الغريب المبهم قد أعدها لتلاميذه قبل ان يصطادوا هم السمك . ان سمكة يسوع هذه تمثل المحبة التي أحبنا بها يسوع وسيبقى يحبنا وهي مركز كل محبة أخرى ؛ منها سيتغذى التلاميذ بعد الصيد ، حتى ولو كانت القوة الغذائية للسمكات 153 مكتسبة أيضاً . ان كلية المحبة سوف تتفوق على أضعاف كلية الشر وتتغلب عليها : هذه هي فكرة رحمة الله الفائقة على كل رحمة .

 

          وحينما سأل سمعان بطرس يسوع : كم مرة علي ان أغفر لأخي هل إلى سبع مرات ، أجاب يسوع : " لا أقول لك على سبع مرات بل إلى سبع وسبعين مرة " ( متى : 18 / 21 _ 22 ) وحسب هيرونيموس ، ان يسوع أضاف قائلاً : " لأنه عند الأنبياء أنفسهم توجد كلمات آثمة ولكنها مع ذلك ممسوحة بالروح القدس ! " .

 

          حينما ظهر يسوع في الجليل هذه المرة كان سبعة رسل حاضرين : بطرس ، توما ، نثنائيل ، يعقوب الكبير واخوه يوحنا ومعهم رسولان آخران . وقد يطرح السؤال : ولماذا هؤلاء بالذات ؟ كان سمعان بطرس اول من نطق بالكلمة التي بدأت بها التلمذة ليسوع باعترافه قائلاً : " أنت المسيح ابن الله الحي ! " ( متى : 16 / 16 ) وكان نثنائيل أول من أعلن _ وان لم يكن بشكل اعلان رسمي مقِّيد _ صارخاً : " يا معلِّم ، أنت ابن الله ! " ( يوحنا : 1 / 49 ) وتوما كان قد اعترف في قاعة العشاء السري حيث ظهر يسوع للمرة الثانية بعد قيامته : " ربي والهي ! " ( يوحنا : 20 / 28 ) . أما يعقوب الكبير فهو أول ( بالتسلسل ) من مات موت الشهداء من أجل يسوع . أما أخوه يوحنا فكان الوحيد من بين الرسل الذي وقف تحت الصليب يوم الجمعة العظيمة ، وآخر انسان وجَّه اليه يسوع الكلام ، ووكل إليه أمه . وهو أول من آمن بالقيامة حينما رأى القبر فارغاً . اما التلميذان الآخران فلم يذكرا بالاسم ، لكنهما حضرا وهما يمثلان دون شك الكنيسة بأكملها .

 

          ومن  المنظور نجد أن ما جرى أثناء ظهور يسوع على بحيرة طبرية _ وهنا نلاحظ انها تسمى باسمها الوثني رمزاً لتاريخ وعمل الكنيسة في العالم _   يمكن القول ان فعل المحبة الذي تقوم به الكنيسة وهو يضم الجميع ويصلح كل شيء ، يختم حضور الكلمة في الجسد في هذا الإنجيل . وان ما يحدث في هذا الظهور يرمز إلى فعل المحبة الذي أتى بيسوع على من اصبحوا ابناء الله ( يوحنا : 1 / 12 _ 13 ) والمسيحيين الذين من الله ولدوا . ويجد هذا ختامه في المناولة المقدسة ( يوحنا : 21 / 13 ) .

 

          وما يلحق ذلك من دعوة بطرس ليكون راعياً للكنيسة ( مع الاشارة الخفيَّة إلى محبة غير كاملة ) ، والتنبؤ  باستشهاده في آخر حياته ، واخيراً في جواب يسوع عن سؤال بطرس بخصوص رسول المحبة ، حيث يشدد على إرادته هو في ان يبقى هذا الرسول " على ما هو عليه حتى أجيء أنا " ، فهنا تنظيم للإكليروس والقديسين للقيام بالأعمال التي سبق وأشير إليها بالرموز .

 

          فإذا فُهم الفصل الحادي والعشرون على هذه الطريقة سيكون عندئذ الخاتمة العضوية لانجيل يوحنا بأكمله : " وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً ان يصيروا ابناء الله . . . ومن ملئه نحن جميعاً اخذنا ونعمة فوق نعمة " . ( يوحنا : 1 / 12 و 16 ) .

___________ . __________

 

 

الحواشي : 

 

( 1 ) _ وقد لاحظ القرآن هذا الاختلاف ، وهو يتكلم عن " أوراق" موسى وأوراق إبراهيم .

          راجع السورة 53 / 36 _ 37 و 87 / 17 _ 18

( 2 ) _ راجع الملحق  ص 282

( 3 ) _ يجب ان نقول : ان كلمات الحياة تنطق هي بنفسها ، وذلك لأنها بالضبط كلمات حية . والكلمة الحية هي من جهة واحدة أيضاً دوماً فعل ، وبهذا المعنى تصبح الكلمات حياة ، أي فعلاً حياً . بالطبع ، حيث لم تعد الكلمات تحيا ، حيث أصبحت قوالب مصبوبة ، فعناك لن تأتي بأي فعل . ويكون وضعها في هذه الحالة مثل وضع العملة المجردة بمقابل البضاعة العينية .

( 4 ) _ وعلى كل حال يتم هنا بوعي الفصل بين أبناء إبراهيم بين الإسرائيليين والإسماعليين وذلك بإطلاق اسم جديد على الله : يهوى وبالشريعة . ولا يُستبعد ان يكون ذلك قصد موسى المفكّر . فإذا ما أُبعد الختان في الظلام ، فعندئذ يؤسس التضامن بين الإسرائيليين على انتسابهم إللا يهوى وقبولهم للشريعة على انها شريعتهم هم . يحاول إسرائيل ان يستحوذ لنفسه على الكنسية . أما ان تكون فكرة الضحية قد ذهبت ضياعاً بذلك ، فهذا ما لم يتم ادراكه .

( 5 ) _ قراءة أو بالحري ترجمة " سبعون مرة سبع مرات " خاطئة ، فالشرق الأدنى في ذلك الزمان الغابر لم يكن يحسب بالنظام العشري .

 

__________ . __________