الظروف التاريخية التي جاء فيها القرآن

قبل أن نمضي قدماً في البحث ، لا بد وأن نستحضر أمام أعيننا الوضع التاريخي للزمن الذي جاء فيه القرآن.  بعد خراب أورشليم على أيدي الرومان سنة 70 ، فقد الدين اليهودي مركزه الديني وأماكن عباداته.  وقد حرّم القياصرة الوثنيون على اليهود (والمسيحيين) أن يعيشوا في المدينة التي أعادوا بناءها، أو أن يقصدوها .  وقد حافظت اليهودية على استمراريتها وتطورت في الشتات، وهذا ما سوف ندعوه من الآن فصاعداً ، نظراً للرفض القاطع الذي أبدته بوجه ديانة يسوع، اليهودية الرابينية التي وجدت لها مركزاً رئيسياً في طبرية على البحيرة التي تحمل هذا الأسم.  ولكن علينا ألاّ ننسى أنه قبل سنة 70  كان يهود الشتات أكثر عدداً بثلاث مرات من اليهود الفلسطينيين.

 

          وبعد موت المسيح سرعان ما انتشرت المسيحية في الجليل واليهودية والسامرة وبعدها في سوريا أولاً ثم في باقي أنحاء الامبراطورية الرومانية الشرقية.   وفي سنة 313 منح قسطنطين المسيحية صفة المساواة مع الوثنية  ومن الآن فصاعداً- تمّ تحوّل الامبراطورية الرومانية بسرعةٍ  إلى امبراطورية مسيحية . فأصبحت أورشليم الآن مُلكاً للمسيحيين  ومركز إقامة بطريرك مسيحي.

 

          وكان احتلال خسروه الثاني لأورشليم سنة 614 بمثابة صدمة مرعبة .  لقد وكل إلى اليهود أمور ادارة المدينة فترة من الزمن ، حيث كانوا بمثابة طابور خامس إلى جانب الفرس في صراعهم مع روما الشرقية . فكان من الطبيعي أن يفكر اليهود بإعادة بناء الهيكل وتجديد طقوس العبادة فيه . ولكن حينما استولى القيصر هيرقل سنة 628 على أورشليم بعد انتصارات باهرة واستعاد المدينة من الفرس، تحطمت تلك الآمال اليهودية.

 

          كانت الجزيرة العربية حتى مجيء القرآن منطقة بين منطقتين لا تخضع سياسياً لأحد.  وقد باءت بالفشل جميع محاولات القيصر يوستينيانوس اقامة ادارة بيزنطية دائمة فيها في القرن السادس، وواكب العرب، الذين كانت التجارة بين الشرق والامبراطورية الرومانية بالنسبة لهم إحدى مقوِّمات  وجودهم ، الفرسَ فترة وروما فترة أخرى .  وتغلغلت المسيحية في هذه الجزيرة قادمة من فلسطين ومن الحبشة أيضاً ، غير أن الدول التي أقيمت في جنوب الجزيرة العربية بناء على ذلك لم تصمد طويلاً .فإلى جانب سكان المدن كان البدو يلعبون –ولايزالون حتى اليوم- دوراً هاماً ، غير أن البدو تخلّفواعن التطور الثقافي الذي عرفه سكان المراكز التجارية.   ولما أصبح استخدام الطرق التجارية عبر شمال الجزيرة محفوفاً بالمخاطر بسبب الصراعات بين الفرس والروم وباهظ التكلفة ، عرف الطريق العابر وسط الجزيرة ازدهاراً كبيراً في الوقت الذي تمّت فيه تغييرات جذرية في كل من مكة والمدينة.  وحينما خسر المسيحيون أورشليم مجدداً سنة 637  تغيَّر ميزان القوة في الجزيرة العربية أيضاً اجتماعياً وروحياً ، لكن هذا الحدث يقع بعد فترة ختام كتابة القرآن.

 

          أما في القرون التي سبقت مجيء المسيح، خاصة بعد خراب أورشليم ، فقد هاجر كثير من اليهود إلى الجزيرة العربية ، والمسيحيون أيضاً، لا سيما بعد رجم القديس اسطفانوس والاضطهاد الذي تبعه ، هربوا ليس فقط نحو السامرة وانما في الشتات وكانت الجزيرة العربية من جملة البلدان التي قصدوها ، ونلاحظ فرقاً جوهرياً نتج عن انتشار المسيحيين واليهود الرابينيين في تلك الأصقاع قوامه أن المسيحية انفتحت على العالم، بينما بقيت اليهودية عن قصد وتعمد ديانة شعب واحد، وهذا ماسوف تكون له فيما بعد تبعات بالغة الأهمية.

 

          ويخبرنا سفر أعمال الرسل كيف اصطدم هذان التياران ببعضهما البعض.  وجاءت المحنة بسبب موقف "الهلّنستيين" . ففي هذا الوقت كان يهود الشتات كُثُراً في اليهودية وأورشليم ، لكنهم كانوا يقرأون الكتاب المقدس في مجامعهم باللغة اليونانية ، وذلك لأسباب تتعلق بالصعوبات الناجمة عن اللغة، في حين كان "العبرانيون" يتكلمون الآرامية ويقرأون التوراة والأنبياء بالعبرية.  وفي المرحلة التي سبقت رجم القديس اسطفانوس، ومنها بدأ اضطهاد المسيحيين وملاحقتهم، نشب خلاف في الكنيسة المسيحية بين "العبرانيين" و "الهلِّنستيين" أنشأ الرسل رتبة الشماس جواباً عنه (كرتبة قيادة ثانية). وحمل جميع الشمامسة الأوائل أسماءً يونانية، لا بل كان أحدهم وهو نيقولاوس، يهودياً مهتدياً إلى المسيحية. وقد أثارت ترقية الهلِّنستيين إلى مناصب قيادية عاصفةً لم تهدأ حين أخذ يهود الشتات من مصر وآسيا الصغرى وروما يتشاجرون مع الشمامسة المسيحيين ووصل بهم الأمر إلى أن قدموا أحدهم، وهو اسطفانوس، أمام المحكمة ثم اقتادوه وسط غوغاء خارج المدينة ورجموه.  هنا بدأت أول حملة اضطهاد المسيحيين الكبرى.

 

          ويلفت النظر في معمعة هذه الأحداث أمر جدير بالاهتمام.  كتب القديس لوقا حول المسيحيين المضطهدين:"فتشتت الجميع في كُوَر اليهودية والسامرة ما عدا الرسل! " (أعمال:8/1)  يبدو الأمر غريباً لأول وهلة، فمن المتوقَّع أن يكون الرسل ، وهم الروساء، قد خشوا الاضطهاد أكثر من الآخرين، وبالتالي، لكي ينجوا بأنفسهم لجأوا إلى الفرار من أورشليم.  ولكن لم يكن الأمر كذلك! وهذا ما يلقي الضوء على الوضع كما كان يومئذ بين اليهود والمسيحيين.  كان الرسل "عبرانيين" ، وعند الضرورة كان من الممكن أن ينظر إلى عقيدتهم كنوع من أنواع العقيدة الفرِّيسية ، لقد كانوا رجالاً، اعتقدوا بأن يسوع نبيٌ وهو المسيح المنتظر وقد ظهر إيمانهم بعد موته انه غير معقول.  أما الهلِّينستييون فكانوا على العكس، في معسكر اليهود أو معسكر المسيحيين، مهتمين بنشر العقيدة المسيحية.  وبالاضافة إلى "خائفي الله" انضمَّ مهتدون جدد إلى العقيدة الجديدة، منهم من تمَّ ختانهم فكانوا يهوداً بكل معنى الكلمة ، وآخرون قبلوا المعمودية فكانوا من الكنيسة.  ونتيجة لذلك وجد الهلِّنستييون أنفسهم من المعسكرين حتماً في صراع تنافس.  لكن الوضع كان أصعب بالنسبة للمبشرين اليهود، وذلك بسبب أن قبول مهتدين جدد من اليهود قد أصبح موضوع خلاف.  ألم يكن الختان مقترناً بالانتماء الكامل إلى اليهودية (كشعب) ؟ و أصبح الآن –كما سيكون في المسيحية والاسلام لاحقاً- منفتحاً على جميع الشعوب ليتسع إلى دين عالمي، وبهذا تكون اليهودية قد فقدت طابع تخصيصها بشعب واحد.

 

          ويضاف إلى ذلك أمر آخر: يظهر بوضوح من خطاب الدفاع الذي ألقاه القديس اسطفانوس كيف أنه عالج بشكل مطوَّل قصة العهد القديم.  ولاشك في أنه فعل ذلك أيضاً لكي يُظهر كيف أن المسيحية تعتبر أنها جاءت كمكمِّل شرعي للعهد القديم، ولكن هذا بالذات.  ولكن حينما يقول اسطفانوس انه يرى يسوع "قائماً عن يمين الله" فلا بد وأن يثير غضب اليهود الهلِّنستيين لأن مكانه "عن يمين الله" يعني أنه مبدأ الحقيقة الذي لا يعلوه شيء.  ويضع اسطفانوس بنوَّة الله على اتصال مباشر بمقاومة اليهود المتكررة دوماً في التاريخ ضد الأنبياء، وهذا ما وصل في نهاية الأمر إلى قتل يسوع.  وكان لا بد وأن يخشى الهلِّنستييون اليهود من أن يحمل الهلِّنستييون المسيحيون هذه الرؤيا عن يسوع وعن موته إلى الشتات وأن يفتحوا ربَّما الكنيسة حتى للوثنيين.

 

          لم يُثر رجم الشماس اسطفانوس مع ذلك الاشكالية، فقد اهتدت بعد ذلك بقليل شخصية اليهود الهلِّنستيين القائدة، شاول ، من كبَّادوكيا، الذي تحت وقع شهادة اسطفانوس عليه اعتنق فجأة المسيحية على أبواب دمشق وبدأ حالاً بالشهادة لحقيقتها.  وكشاهد من هذا الطراز توجه بولس مدة من الزمن في الشتات ليس فقط ( وإن يكن بدايةً ) نحو اليهود وانما نحو الوثنيين بشكل مباشر ، وبرفضه للختان ألغى طابع تخصيص اليهودية بطابع واحد.  وبهذا أصبح تبشير العالم حقيقة واقعة، وهو وضع أخذ بالطبع بعد طرد اليهود من أورشليم عام 70 أهمية أكبر فأكبر.

 

          لقد عرف سكان شبه الجزيرة العربية في القرون اللاحقة اليهود والمسيحيين أيضاً ومن بين هؤلاء- وهو أمر سيكون ذا أهمية قصوى فيما بعد- "العبرانيين" وكذلك "الهلِّنستيين" مما يعنى أولئك الذين لم ينفتحوا كثيراً على الرسالة العالمية كما وأولئك الذين دعوا للتبشير بين الوثنييين ، وهم العدد الأكبر ممن تركوا الوثنية واهتدوا إلى الدين الجديد. ولكي نكون على يقين حول من هم حقيقة أولئك "النصارى" الذين يقصدهم القرآن ، لا بدَّ من البحث بعناية شديدة عن مؤشرات أخرى.

 

          ومن بالغ الأهمية أيضاَ مراعاة ما يلي: أنه منذ ظهور آخر نبيٍّ، هو النبي ملاخيا (حوالي 450 قبل الميلاد وحتى تدمير أورشليم (70 بعد الميلاد) كان قد مضى زمن أطول منذ تاريخ تدمير أورشليم حتى مجيء القرآن. فالناطق بالقرآن لايزال يعيش –كما سنبين ذلك لاحقاً- بكل تأكيد في الجو الروحي الذي عاش فيه كاتب العهد القديم وكتب الحكمة والأناجيل.

 

          لقد مكَّنت عودة اليهود من السبي البابلي بفعل الاحتلال الفارسي، ولو بعد بدايات بائسة، مكَّنتهم من إعادة بناء الهيكل.  والمنفى الثاني الذي بدأت (منذ عام 70) تظهر معالم نهايته مع احتلال خسروه الفارسي لأورشليم يقع تقريباً على نفس البعد الزمني بين تدمير المدينة، (على يد تيتوس) وبداية العودة من بابل التي سمح بها قورش. وبالتالي من الممكن أن يُضمَّ هذا الحدث إلى تاريخ شعب العهد القديم وهذا ما شعر به أيضاً معاصرو الأحداث.  وبنظرة واقعية كان من الممكن أن يروا أن ماورد من نبوءات حول ظهور المسيح على لسان الأنبياء سوف يتحقق وذلك في تلك الآونة بالذات.  لكن إعادة احتلال أورشليم على يد هيرقلس عام 628 كان لها وقع كارثي أعظم.  فقد كان نص القرآن في ذلك الزمن قد اكتمل تقريباً.  بينما فقد اليهود كل أمل حقيقي.  وحينما فتح العرب أورشليم (637) بعد ذلك بقليل من السنوات، كان الاسلام قد انفصل بشكل نهائي عن اليهودية.

 

 

وضع اليهودية

          سوف نرى فيما بعد كيف أن القرآن يؤسس على العقيدة التوراتية التي يعلي من شأنها بوجه جميع أعدائها و المنحرفين عنها ويعتبرها العقيدة الصحيحة غير المتنازع عليها.  لذا وجب علينا أن نحاول فهم وضع اليهودية في تلك الحقبة من الزمن.  فمما لا شك فيه أن الوضع كان يدفع إلى اليأس.  فبعد أن توحَّد العدوّان اللدودان: روما والمسيحية باعتناق الامبراطورية الدين المسيحي ، وهما ما كان اليهود يحملان لهما الحقد والبغض ، بدأ يتلاشى كل أمل هؤلاء في العودة إلى بلادهم وإعادة بناء الهيكل. حتى مرحلة احتلال خسروه الثاني لأورشليم لم تكن سوى قترة متأزمة لأن الفرس هم الذين أضحوا أسياد المدينة فكان مصير اليهود بأيديهم ؛ ثم جاء مجدداً احتلال هيرقلس للمدينة فحَّول كل آمالهم بالعودة الى المدينة واقامة دولة وإعادة طقوس عبادة الهيكل الى أحلام .

 

يحتوي العهد القديم , الكتاب المقدس لدى اليهود على التوراة والانبياء . ( سوف نتكلم فيما  بعد عن كتُب الحكمة ! ) . أما كتب الأنبياء فتقسِّم ما يبشرون به الى قسمين رئيسيين من ناحية المحتوى : الدفاع الصارم عن الإيمان بالله الواحد والقوانين وتوقع ظهور المخلص , وهذا الأخير أخذ يقوى أكثر فأكثر  منذ التهديدات التي شعر بها كل من اسرائيل ويهوذا من قبل الآشوريين والبابليين وأشتدت لهجة الالحاح حوله بعد السَّبي البابلي . لكن هذه التنبؤات بالذات هي التي رفض اليهود الرابينيون أن يعترفوا بها بخصوص يسوع ووجدوا انها لم تكتمل بظهوره مدَّعين بأنه ليس المسيح المنتظر . وقد وجد الرابيينيون أنفسهم في موقف كارثي حيث كان عليهم أن يقلِّلوا من أهمية النبؤات المتعلقة بظهور  المسيح , أو أن يقوموا بتفسيرها  وتوجيه معانيها نحو تفسيرات أخرى . وهذا  وضع – نلاحظ حتى أيامنا هذه – أنه لا يزال قائماً في محاولات من ارتأوا إيجاد حلٍ للمشكلة , كما تظهر أثاره عند مندلسون وماركس وهرتزل . ومن هنا أيضاً يتضح المنهج في التلمود والميدراشيم الذي قدمناه في القسم الأول وفحواه أن الوعي اليهودي يحاول دون انقطاع تفسير وعد مجيء المسيح ( الذي لم يتحقق بعد ) بأشكال متعددة . واتباع هذا الموقف في كافة مظاهره يقود حتماً الى وضع يعيِّن فيه القانون دوماً – دون التخلي عن الإيمان – الموقف الديني – الأخلاقي وكذلك الطقس أيضاً . ويفهم هنا أن التعليمات التطبيقية في هذا الوضع لا بد وان تبقى منفصِلة عن القوانين الأساسية التي كان مجال تحديدها واسعاً جداً . وأخبركم بعهده (...) يقول موسى : "أن تعملوا به الكلمات العشر وكتبه على لوحَي حجر . وإياي أمر الرب في ذلك الوقت أن أعلمكم فرائض وأحكاماً لكي تعملوها في الأرض التي أنتم عابرون اليها لتمتلكوها " ( تثنية :4/13-14 ) . أما في التطبيق فقد أصبح , بحكم وضع اليهود المشردين , من الضروري أن تجري اضافات وتعديلات على ذلك .

 

 

التبشير بعقيدة التوراة

القرآن- وهذا أمر أساسي – هو كتاب الهدف منه هداية العرب وردهُّم عن عبادة الأوثان ليعتنقوا عقيدة التوراة . إن الله قد أوحى بـ " ذلك الكتاب " ( سورة 2/2 ) " مصدِّقاً لما معهم " , أي ما لدى اليهود(التوراة) "وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا " (سورة 2/89 ) . ويشرح العالم ك.هروبي بحقٍ هذا الكلام بقوله : ان لتوراة موسى في القرآن "دوراً مركزياً" ،    " قبله وبعده". إن القرآن  يعتنق هذا الايمان بالشريعة وبصلاحتيها المطلقة , وهو  يبشر به . وهو لا ينفي أن اليهود "يملكون الشريعة " , بل على  العكس , هو يؤكد ذلك في مواقع مختلفة . ان إيمان ابراهيم , وكل ما جرى له ولذريته يجب أن يُفهم من التوراة الموسوية , وكذلك كلام الأنبياء من بعده الذين دافعوا عن الإيمان بالله وطالبوا به ( سورة 2/130 ) .

ويتوجه الناطق بالقرآن ببشارته والدفاع عن هذا الإيمان الى العرب ؛ انه يبشر . وهذا هو الواقع الأساسي الثاني .فبعد دعاء البركة في السورة الأولى يعلن في بداية السورة الثانية: " ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتَّقين" (سورة 2/1) .

 

          أما ان يكون التبشير قد تمَّ بواسطة كتاب ، فهذا ما يطرح أيضاً عدة أسئلة أساسية.  فبما أن الناطق بالقرآن يذكر في مواضع عدة ما هو مكتوب أمامه (ليس فقط صلاة البركة في السورة الأولى وإنما قرآناً عربياً) فمن الممكن أنه يشير بذلك إلى نصٍّ عربيٍّ  (قام هوبإعداده) للتوراة موجود أمامه.  هذا ما يقول به العالم ج. برتول مشدداً عليه.  ولكن لا نستطيع تقديم برهان على أن هذا "القرآن" كان ترجمة ، لذا لا بد وأن نضع البت في هذه القضية جانباً.  ويواجهنا وجود نص مكتوب لهذه الرسالة بإشكال ثانٍ:  فبحسب المعتقد الرابيني ، إن من يصيغ صلاةً بصورة مكتوبة تنزل عليه اللعنة، إن فِعْلَ ذلك يساوي فعل من يُتلف شريط التوراة ومع ذلك نجد أن الناطق بالقرآن (على الأرجح بأمر من وحي نزل عليه) لا يعير ذلك أهمية ويكتب في بداية دعاء بركة يشمل الكتاب بأكمله (سورة 1 وسورة 2/286) وذلك بلغة عربية وكتابة عربية أيضاً. ثمَّ ليس القرآن ترجمة للتوراة، إلا أنه يقوم أحياناً بترجمة بعض المقاطع منها ويعيد صياغة البعض الآخر هنا وهناك فيما يتعلق بالمحتوى بطريقة تكاد تكون ترجمة لأجزاء أساسية منه.  وجاء نتيجة لذلك أن انتشر الاسلام بسرعة حتى آخر المعمورة (التي كانت معروفة في ذلك الوقت) ولا شك في أن الناطق نفسه ، لو اعتبرنا أنه ناطق بوحيٍ إلهي ، كان دون شك على علمٍ بالتحريم الرابيني، ومع ذلك أتى بهذا الكتاب كصيغة ثانية للتوراة نوعاً ما.  ولا شك في أنه كان لديه ما يكفي من أسباب ليفعل ذلك.

 

          ومن البديهي أن للعرب الذين لم يكونوا يعرفون لا اللغة العبرية ولا الآرامية كان لا بدَّ من أن تقدم لهم التوراة بلغتهم هم .  ويتوجه القرآن بالدرجة الأولى إلى عَبَدة الأوثان الذين لم يكونوا على علمٍ بأفكار التوراة .  فحتى لو قبلنا بالقول بأن الوثنية العربية قد عرفت نوعاً من التوحيد، يبقى أن الفرق بين إله الوثنيين "إله الأعلى" (الله) والإله الواحد (الله=إلوا) إله التوراة فرقٌ جذري بشكل كامل .  فإن الناطق الذي خطا هذه الخطوة فقدَّم "كتاباً" بلغة أخرى (عربية) كان يدرك بلا شك أبعاد ما يقوم به.  وفي رأيي أنه فعل ذلك بحق.  فكما فعل موسى حينما حطَّم لوحي الوصايا اللذين كان الله قد كتب عليهما، وأعاد هو كتابتهما مرة أخرى، هكذا يفعل الناطق بالقرآن بالتوراة مرة ثانية – والآن لغير اليهود، إذ في قناعته أن اليهودية الرابينية كانت تدافع الآن كما في السابق بغيرةٍ عما تمتلكه، إلا أنها خانت روحه.

 

يجب علينا أن ندرك بوضوح عظمة هذه الجرأة إذا ما أردنا أن نعطي القيمة المستحَقة لقصد الناطق بالقرآن بالتبشير بالرسالة . يضاف الى ذلك ان المقصود هنا بلا شك توسيع إيمان التوراة إلى أبعد من الهدي الى الايمان وذلك كون الناطق بالقرآن لم يعد يسمح بأن لا يكون هذا الإيمان في حوزة اليهود فقط . نعم لقد فكر كما هو واضح من القرآن ,أن على الإسلام أن ينتشر  إلى أبعد من ذرية ابراهيم والعالم العربي ، إلى كل البشر , أن يؤدي إلى هديهم (سورة 7/158 ) . لقد أصبحت بذلك فكرة التبشير بالرسالة فكرة تبشير العالم . يجب أن يكون إيمان التوراة شاملاً . إن وضع الانغلاق الذي كان يعيش فيه اليهود من خلال رفضهم لهذا التبشير العالمي يجب أن يمحى.  ينظر الناطق بالقرآن الى يوحنا المعمدان ويسوع من وجهة النظر هذه . كلاهما كانا نببين حقيقيين ( بغض النظر عن أن النصارى قد حرفوا رسالتهما من بعد ) وما رفض اليهود لهما سوى رفض طلبهما في الوقت ذاته من اليهود أن يتخلوا عن حقهم بالملكية المُقصِيَة للآخرين , ملكية ايمان التوراة , غير أنهم بقوا على نيتهم : " هذا هو الوارث ! هلموا نقتله ونأخذ ميراثه " ( متى 21/38 ) .

 

هناك أمر آخر يتماشى مع دفاع الناطق بالقرآن المندفع والغيور عن إيمان التوراة وهو على علاقة بهذا " الإرث " أنه يقضي الى حد كبير على الرسالة التي اتى بها الانبياء بشكل خاص . ويمكننا إثبات ذلك إحصائياً على الأقل : يذكر القرآن اسم موسى 500 مرة واسم إبراهيم 100 مرة واثنتي عشرة مرة باقي الانبياء لا سيما النبي إيليا وأليشع بما أنهما دافعا عن إيمان التوراة الحقيقي . ولا نجد أي ذكر للنبؤات التي تتكلم عن الخلاص وكذلك كل ما يمكن فهمه تدليلاً على المسيح في تاريخ الآباء الأولين . ويتوافق هذا الأمر مع موقف اليهود الرابينيين الأساسي : الوعد بالمسيح لم يتحقق ؛ بل على العكس لقد دمر الهيكل وأورشليم معه .

 

فالمخرج الذي اتخذه القرآن هو توسيع إيمان التوراة على كل أبناء إبراهيم وأكثر من ذلك على كل البشر الذين يريدون اعتناق هذا الإيمان . إن هذا التبشير هو أولاً للعرب : لهم الأفضلية بأن يكونوا مثل الإسرائليين أولاداً لإبراهيم في الختان . نعم لقد اختتن اسماعيل أولاً وقُبِل بذلك "كابن للموعد " وهذا ما يتجاوز كل قرابة طبيعية .

 

من خلال هذا الختان الأول تأتي لابراهيم تلك الأهمية الكبرى . مع الختان حلّ مبدأ التبني محل النسل الطبيعي . وفي سورة ابراهيم نسمع القول: إذ قال ابراهيم رب (...) وأجنبني وبني أن نعبد الأصنام . رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني " (سورة 14/35-36 ) بالتالي كان عند اسماعيل , أول من اختتن حسب مشيئة اللّه , الموعد الذي وعد به اللّه واللّه لم يسترد أبداً هذا الوعد , إسماعيل كان وسيبقى " ابن التبني " . إن الاعتراض الذي قدمه س.د. غوتين بأن العرب لم يعودوا في زمن ظهور القرآن شعباً إسماعيلياً , لا يَنْقضُ شيئاً .ويمكننا إذا أردنا أن نقول شيئاً مماثلاً له عن اليهود الذين أتوا فيما بعد . ليس التوالد الطبيعي هو المهم إنما الاشتراك بالموعد ( التي تثبته علامة ما ) وبالمهمة التي أوكلت إلى إبراهيم ونسله . وما يؤكد أهمية العلامة المادية ( الحسية ) للتبني في القرآن نجده في نهاية سورة البقرة والتي تقول : " اغفر لنا وارحمنا أنت مولانا[1] فانصرنا على القوم الكافرين " . ( البقرة 2/286 ) .

 

وبما أن اليهود، بعدما رفضوا يسوع وفي نزاعهم مع المسيحيين قد فقدوا الإيمان الصحيح وأصبحوا شيعة , عاد الله الى الوعد الذي منحه لإسماعيل فيجعل نسله من خلال التبشير الذي يقوم به القرآن حاملي الوعد والأمينين على تعليم التوراة . هؤلاء وكل الذين تأثروا بأعمالهم وقبلوا إيمان التوراة غير المحرّف , الذي يبشر به القرآن , هم وحدهم يعترفون حقاً بالإله الحقيقي . صحيح أن اليهود الرابينيين يملكون الكتاب المقدس : يستشهدون منه ويكتبونه مرة أخرى , لكنهم لم يعودوا يبشرون بتعليم التوراة الصحيح . وكما فعل اسطفانوس أمام المحفل الأعلى كذلك يلوم الناطق بالقرآن اليهود على عدم أمانتهم المتكررة- بعد يسوع وخلال حياته وقبلها ويذكّرهم دائماً بعدم الأمانة هذه .

 

" لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلاً كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذّبوا وفريقاً يقتلون " . ( سورة 5/70 ) . " ولكن كيف ؟ هل يجب أن يعقدوا معي كل مرة عهداً ...؟ ( سورة 2/87-91 ) . هكذا أرادوا أن يمنعوا نشر الرسالة بين العرب ولم يقبلوا بالتخلي عن حقهم الذي هو لهم بأنهم المالكون الوحيدون لإيمان التوراة .

 

 

الارتداد عن الشرك

معظم العرب الذين يتوجه إليهم الناطق بالقرآن في تبشيره هم وثنيون , وهذا الأمر يعرفه المبشر ولا يخفيه . لقد فقدوا إيمان ابراهيم بخطأ منهم . السؤال الذي يطرح نفسه الآن كيف يرى القرآن هؤلاء الذين يتعبدون لعدة آلهة وما القيمة التي يمنحها إياهم ؟ ففي أكثر الأحيان نجد أنه يعيِّرهم باحتقار ويقول عنهم إنهم يتعبدون لحجارة ميتة . هذا يتلاءم مع حملة التوراة على الوثنيين : لكننا نخطىْ لو كنا نقبل بذلك, أي انهم كانوا , حسب فهم الناطق بالقرآن, ذلك فحسب , لأن آيات في القرآن تذهب الى أبعد من ذلك بخصوص معرفته عن أهل الشرك . ففي إحدى الآيات يؤكد بالحلفان بـ " نجم المساء " ثم يطرح السؤال مباشرة: " والسماء والطارق , وما أدراك ما هو الطارق " ( سورة 86/1-2 أيضاً سورة 6/75-76 ) . يكمن أساس الشرك عند العرب - ونحن لا نعرف كيف انحطّ هذا الايمان عندهم في القرن السابع- في كيفية الإيمان بالنجوم والآلهة عند البابليين القدامى . يتميز هذا الإيمان بمعارفه الفائقة حول القوانين التي يسير وفقها القمر والشمس والكواكب حول الأرض وحسابها في معادلات رياضية دقيقة جداً . لقد عرف البابليون حتى أوقات الخسوف وعن طريق ذلك استطاعوا أن يحسبوا بدقة نظام الكواكب في السماء بالنسبة للنجوم الثابتة . كانت المسارات تحسب بالنسبة لبعضها بدقة وعبر تغير فصل السنة والأوقات اليومية , وبطريقة أسلم بكثير من ألإغريق الذين أتوا فيما بعد أو الرومان . كان القدماء يعزون للنجوم , التي كانت تعتبر في هذا النظام مثل آلهة , قوى وتأثيرات معينة وذات نوع خاص لا سيما وأنها كانت تشكل مع بعضها نظاماً هرمياً كانت فيه , في المرحلة الأخيرة من هذا الإيمان , كل النجوم , بما فيها الشمس , خاضعة بمجملها للقمر . لا يمكننا هنا أن نتوسع في هذه النقطة أكثر من ذلك . ولكن من غير المعقول أن الناطق بالقرآن الذي يظهر أنه واسع المعرفة إلى حد كبير , لم يكن عنده أي علم بذلك . وبالفعل يمكننا في بعض المواضع أن نبرهن شيئاً من هذا القبيل مثلاً في فهمه لموقع بيت الله . وحسب معلوماتي لا يوجد حتى الآن أي دراسة علمية متماسكة عن علاقة إيمان القرأن بعلوم البابليين كما فهمها القرآن ؛ ولكن مع تنظير وممارسة الإسلام يمكننا أن نستقرىء أن الكثير، وأكثر مما يفترض عموماً , من النظرة البابلية للعالم هذه قد تسرب إلى الدين الجديد .

 

الإيمان بيهوه

إن الإيمان بإله واحد ووحيد قد تسامى عن النظام الكوني القائل بتنظيم الكون لنفسه بنفسه وفي النهاية تخطاه . وهذا لم يحصل بتلك البساطة القائمة على القول: أن إله العبرانيين والإسرائليين قد أظهر انه أقوى من باقي الآلهة . حتى إظهار الله لذاته في سيناء على أنه " يهوه " لم يوضّح بعد كل شيء . إن اسم الله هذا لافتٌ للنظر حقاً  إذ تظهر فيه للمرة الأولى فكرة مجردة (  "أنا هو" ( الذي لا يتزعزع )) بدلاً لاسم ملموس .

 

طرحت هنا آراء كثيرة عن احتمال أن يكون لعبادة الإله رع عند المصريين دور في ذلك : وللمرة الأولى نعم , يرتبط في شخص موسى عالم الفكر البابلي مع المصري . غير أن توحيداً مجرداً فقط لم يكن يعني الكثير بالنسبة لبشر يعتمدون على الحس بشكل مباشر مثل الإسرائيليين . كان الإغريق يبحثون عن " الحكمة المجردة " , أما اليهود فكانوا يطلبون " علامة حسية " كما يقول بولس الرسول ( 1 كورنثوس: 1/22 ) . عندما سأل يسوع الرسل أمام الناس الذين كانوا يزحمونه كيف يمكن إشباع هذا الجمع , أجاب  أحد الرسل وهو فيلبس ( اسم يوناني ) أنه يمكن بكل الأحوال شراء خبز بمئتي دينار : أما أندراوس فيشير إلى أن هناك شخصاً معه بعض الخبز والسمك , وهذا الجواب يتوافق مع روح وحس الإسرائيليين العملي بشكل مباشر . إن الإيمان بالله في التوراة يعود إلى زمن ما قبل موسى بكثير كما تشهد التوراة مراراً بذلك: وسوف نحاول في معرض الحديث ان نبحث عن جذور هذا الإيمان . إن إله العهد القديم مختلف كلياً عن آلهة الوثنيين وأيضاً عن "الإله العلي " عندهم .  وعلينا أولاً أن نعرف أين تكمن هذه الفرادة ,وإذا ما كان الناطق بالقرآن الذي يقر بها بحماس , يعرف أساس هذا التفرد وهل بشّر بهذا المعنى .

 

 

كان التنظيم الوثني الذي ناهضه الإيمان بالإله الواحد , تنظيماً متضمَّناً في الطبيعة . لم يكن فيه ما يشير الى وجود ما قد يكون فوق الطبيعة . وهذا يعني أن ما هو شهواني وجنسي في هذا النظام يتغلغل في كل شيء حتى الأمور الإلهية . وإذا أتى المرء اليوم من بنارس الى سانارت يمكنه أن يرى بدهشة الفرق بين نظام مثل هذا شهواني –طبيعي أساساً وبين التفكير الذي يعرف عالم غير المحسوس . في مدينة بنارس الهندوسية يرش المتعبد لغورو , كعلامة شكر على تعليمه, ورداً على منطقة العضو الجنسي ؛ في سارنات , حيث استنار بوذا , يسود فصل زهدي بين الروحي والشهواني . 

 

والمسألة المؤلمة للغاية والتي كانت تثقل كاهل الإنسان وتجعله في نظام طبيعي مغلق هي الموت.  فالأهرامات المصرية ومثلها ملحمة جلجامش هي شهادات باقية عن مدى انشغال الإنسان بمسألة الموت الذي يهدده دون أ ن يصل إلى حل مرضٍ .وما جعل الإيمان بالإله الواحد حيال هذه المسألة ممكناً هو أن العلاقة مع الموت قد تحولت جذرياً . ولكن هذا يعطينا طبعاًَ الناحية السلبية فقط : لقد تم اجتياز القدرة الفائقة للطبيعة بشكل مبدئي ؛ ولم يعد الموت يمحور حوله كلَّ شيء. وحتى الان نحن لا نرى من وجهة نظر فلسفية سوى الوجه السلبي شكلياً للمبدأ الجديد ؛ فيبقى السؤال ما هو الإيجابي والنوعي في هذا المبدأ .

 

لو أننا وجدنا هنا فقط نفي الحياة الطبيعية بما هي أسمى شيء , لما كان اتجه التطور الى أبعد من البوذية , التي لم يكن بإمكانها أن تضع سوى العدم بديلاً ( النيرفانا – مأخوذة هنا بموجب فهم بوذية الهينايانا، وهو الفهم الصحيح): التحرُّر من الإلتصاق بالواقع الطبيعي. لكنَّ انعتاقاً من هذا  النوع المجرَّد من التضمُّن الحسي لا يحلُّ بشكل كامل محلَّ الايمان بإله واحد أوحد.  


 

المحتوى الإيجابي للإيمان بالله

 

لو تعمقنا أكثر في الايمان بيهوه لوجدنا أنفسنا أمام "الشريعة" أي الوصايا العشر.  وبوسعنا أن نقسم هذه الوصايا من ناحية محتواها إلى قسمين مختلفين .  الوصايا الثلاث الأولى تخص الله وسلطانه واسمه و إكرامه والوصايا الست الأخيرة تخص العلاقة بين البشر .  تحتل وصية إكرام الوالدين المكانة الوسط، كما هو وضع طلب "الخبز اليومي" في الصلاة الربانية.  وتتميز هذه الوصايا بمجملها في انها تحريمات ؛ حتى الصيغ الإيجابية في الوصيتين الثالثة والرابعة تتوضح بأحكام تطبيقها محرِّمة وناهية.  يقال ما يجب ألا يفعله المرء إطلاقاً أو ما يجب على المرء ألا يغفله بأي حال.  هذا يعني أن هذه الوصايا لا تقدم في جوهرها أكثر من الأخلاقيات الأولية، دون الأخلاق الأسمى (التي سنتكلم عنها فيما بعد) لأنها تنص على ضرورة الاعتراف بالله وعبادته مرفقاً برفضِ كل ما به علاقة بالشرك، وهذا ما يجب تحقيقه لكي يُحتَرَم البشر (أولاً الإسرائيلييون فقط) فعلاً كبشر؛ هذا كله مفتَرض لكي تبنى عليه الأخلاق العليا فيما بعد وإلى أي حد يكون ذلك ممكناً، فيتم فعل الخير وإلى أي حد يكون بمقدورنا أن نحققه.  وما نجده من طلب في كتاب تثنية الاشتراع وحده ، وهو يأمر بمحبة الله ومحبة القريب بكل ما يملك الإنسان من قوة يكمِّل، حتى وإن لم يكن بشكلٍ كامل،  هذا النقص.  إن الوصايا الثلاث الأولى تبرز في الواقع وحدانية الله وما يحقُّ له وحده، إلا أنها لا تظهر على الاطلاق ما الذي يجب أن يفهم نوعياً و مضموناً تحت كلمة الله.

 

غير أن كل الوصايا العشر تشترك بأمر واحد: إنها آتية عن الله كوجود إرادة تظهر ذاتها وتضع بوجه الوجود الواقعي، بوجه الشهرة والتأثير شيئاً آخر مختلفاً كلياً : الواجب المطلق:      " اسمع يا اسرائيل ، الرب إلهك هو أحد: يجب عليك..."  لقد استطاع العالم الوثني بالفعل أن يصوغ إرادته وأمنياته التجريبية؛  غير أن ذلك انطلق عن قناعة أساسية من تركيبة القوى التجريبية ثم عاد مرة أخرى إلى الكون الطبيعي (بما فيه الآلهة). أما الواجب القطعي فيفتح ، على العكس، واقعاً يواجه كل ما هو واقعي وذلك كشيء أسمى أي كقصد مطلق.  هذا ما يميز الموقف الأساسي الموسوي بشكلٍ خاص وهو أن يَظهر فيه بوضوح جلي طابعه كأمر مطلق مغايراً كلياً للرغبة الافتراضية والوجود الوقعي.

 

يظهر الواجب بشكلين: أما كل ما هو قائم حسياً ، وقد وُضِع له كل ما هو أمر ونهي، ثم في العلاقة مع ما ظهر لأول مرة بطريقة مبدعة في تضحية ابراهيم وهو ظهور القصد الأساسي المؤسَّس عليه: إرادة إيجابية من ذاتها قبل أي مراعاة للواقع في التجربة.

 

بحصوله على الشريعة في سيناء ارتفع الشعب الاسرائيلي إلى مستوى جديد كليّاً ومن خلال ذلك أصبح شعباً مختلفاً عن بقية الشعوب.  لقد عرف ووافق على الفرق الأساسي بين ما يجب أن يكون دون شرط وبين ما هو واقعي فقط.  ما يجب أن يكون لم يعد في هذا النظام الجديد ذاك القانون الكوني السابق، لا كقانون الطبيعة ولا (في العلاقة بين البشر) كقانون الجماعة (التعبير اليوناني: نوموس بوليتيكوس) وأكثر من ذلك أن الطبيعة (في كلا الشكلين) لا تستطيع إطلاقاً أن تعيِّن  ذلك، بل إن القانون هو الذي يحدد بسيادة ما يجب أن تكون الطبيعة .  لا البابليون ولا المصريون توصلوا إلى هذا المستوى؛ واليونانيون رفضوا هذا الأمر بالعودة إلى ما قاله سوفو كلس عن القانون غير المكتوب.  العدالة عند أفلاطون ، وهي أرقى فكرة في الأخلاق اليونانية، تشكل علاقة تآلفية للفضائل الطبيعية الثلاث ؛ الحكمة والشجاعة والتبصر.  وهو ما هو ذو قيمة أخلاقية بالنسبة لمواقف أفلاطون الأخيرة ومن بعده شيشرون وهو تلك الارادة التي تريد أن تحقق تلك العدالة.

 

يدافع القرآن عن هذا التشريع القاطع والمستقل عن كل ما هو من الطبيعة بشكل حازم. فهو، بما هو تعبير عن إرادة الله، إلى جانب إبرازه لوحدانية الله، العلاقة المميِّزة له.

 

 

إله ابراهيم

 

السؤال الذي يجب أن نطرحه بعد ما توصلنا إليه من معرفة هو: من أين تأتي هذه الأخلاق المعبَّر عنها في الوصايا العشر؟ هنا علينا أن ننتبه إلى أن الله في جبل سيناء لم يفصح عن اسمه غير المحسوس فحسب، بل عرَّف على نفسه من خلال العلِّيقة المحترقة بوضوح على أنه "إله ابراهيم واسحق ويعقوب".  كان موسى منذ أول شبابه قد تربى عند المصريين وتعلم منهم.  لقد عاد إلى شعبه عندما اضطر من جراء قتله لأحد المصريين أن يهرب إلى مدين.  أما الرجل الذي ذهب إليه هناك، ويدعى يترو، فكان كاهناً! وللوهلة الأولى، يمكن أن نفكر بأن هذا الرجل كان كاهناً للأصنام، اي كاهناً بالمعنى الوثني.  لكن هذا خطأ! كان يترو، مثل موسى، من نسل ابراهيم ولكن ليس من اسحق ويعقوب وأيضاً ليس من اسماعيل وإنما من قطورة من آخر امرأة لإبراهيم.  لم يكن طبعاً في التوراة، وقد ركزت في قصصها على خط اسحق-يعقوب، سسبب خاص يدفع نحو إبراز كامل لأهمية هذا الانحدار من قطورة (حتى القرآن أيضاً لم يعطها المكانة التي تستحقها لأنه كان يركز على خط ابراهيم-إسماعيل). لكننا سوف نفهم حقاً حياة موسى عند يترو حينما نأخذ بالاعتبار أن يترو وأتباعه – بما هم من ذرية ابراهيم- كان لهم دين مختلف عن الدين الوثني و على أساس هذه الشركة استطاع موسى أن يخدم يترو وأن يختار صفورة ابنته زوجة له.

 

ومن الأهمية بمكان بالنسبة لبحثنا أن نرى أولاً كيف أن موسى قد فهم يهوه على شكل مختلف كل الاختلاف عن كافة الآلهة الوثنية، أي أنه إله ابراهيم.  وهذا الأمر بالذات يقودنا إلى المحتوى الإيجابي نوعيّاً لما ينبغي أن يكون .   لقد أعطى موسى في جبل سيناء الاسرائليين مع الوصايا العشر والقوانين المعلقة بها دستوراً أي نظاماً ثابتاً لمختلف مجالات الحياة[2].  وهذا ما يضعنا أمام أمر آخر له معنى بليغ بالنسبة للناطق بالقرآن: لقد أعطى القرآن أيضاً شريعة (دستوراً) للعرب ولكل الذين اعتنقوا الإسلام فيما بعد.  وهو بالدرجة الأولى مثل الدستور الموسوي، دستور ديني  وليس سياسياً بالمعنى الحقيقي.  ومن هنا كان الوضع الصعب الذي وجد الإسرائيليون أنفسهم فيه بعد موت يشوع، ووجد النبي صموئيل نفسه أيضاً مضطراً لأن يُقر للإسرائيليين بحكم ملكي  وهكذا نرى أيضاً أن القرآن لم يثبت للمسلمين دستوراً سياسياً بالمعنى الدقيق في القرآن، غير أن الدستور الإسلامي يعود( تماماً مثل الدستور الموسوي) إلى الظروف التي تخص أيضاً الحيز السياسي  ، فإذا ما قارنا وضع العرب الذين كانوا يعبدون عدة آلهة، مع الوضع الذي نقلهم إليه القرآن لوجدنا كم كان مهماً لمصيرهم اللاحق الارتقاء بهم إلى حالة دستورية.  إنها هي التي مكنتهم من تحقيق النجاحات العسكرية والسياسية العظيمة في الزمن التابع لظهورها. لقد شكلت ،إن صح التعبير، العمود الفقري للوجود الاسلامي.

 

غير أن تحويل الأمور إلى دستور تشريعي لا يعنى أن موسى قد كوّن من ناحية المحتوى أيضاً ما وضعه في قواعد. فلو أردنا اليوم التكلم عن التشريع "لذبيحة موسى" دون توضيحات مسبقة لأثار ذلك فينا العجب وعدم الفهم.  كما أنه لا يمكننا الكلام عن "شريعة ابراهيم" هكذا على عواهله.  فالتضحية باسحق هي الحدث المهم لدى ابراهيم وهي ما يميزه.  أما موسى فلم يكن بالدرجة الأولى الشخص الذي يقدم الذبيحة بل المشرع، والمشرع للذبيحة – ولكن لذبيحة قائمة قبله وما كان عليه سوى أن ينظم إتمامها.  عندما قاد موسى الاسرائليين إلى مدين بعد الخروج من مصر وهناك علم أن حماه يترو كان يودّ أن يأتي إليه في المخيم مع صفورة أسرع لمقابلته وسجد له كما لو أنه كان ذا مكانة مرموقة.  وما يدعو للدهشة هو أن يترو عندها،  وليس موسى وهارون، هو الذي يقدم للمرة الأولى بعد الخروج من مصر الذبيحة لله من أجل الاسرائليين وعلى مذبح شُيّد لهذه الذبيحة (خروج 18/12). هذا يعني أن موسى وهارون كانا ينظران إليه على أنه موكل من قبل الله بأن يكون الكاهن الذي يقدم الذبيحة.

 

هناك أمر آخر في هذا الخصوص يجب أن ننظر إليه أيضاً! عاد موسى بعد هروبه إلى مصر مرة ثانية و بموافقة يترو رافقته امرأته مع ولدها مسافة من الطريق.  وفي الليل قبل أن ينفصل عنهم موسى، هدد الله موسى بالموت. فما الذي حصل؟  خَتَنت صفورة بسرعة ولدهما- هذا يعني أنه لم يكن بعد مختوناً!- ووضعت من الدم الذي سال منه على عورة موسى (خروج 4/24-26). هنا يجب الانتباه إلى أنه ليس موسى إنما صفورة هي التي قامت بالختان!  هناك افتراض، وليس ذلك بغير حق، يقول إن موسى نفسه لم يكن مختوناً.  على كل حال لم يختن هو ولده.  وهنا يجب فهم تصرف صفورة بطريقة صحيحة.  فحسب فهم القدامى الأولين للذبيحة يزيد دم (= حياة) الضحية قوة الحياة عند الذي يهراق من أجله الدم أو الذي يهراق عوضاً عن دمه.  عندما قدمت مريم العذراء ذبيحة التطهير بزوجي يمام تم ذلك كالتالي:  تذبح يمامة وتغمس الأخرى بدم الأولى التي ذبحت وتترك لتطير.  هذا يتوافق مع القصة التي تخبرنا أن ابراهيم ذبح بأمر من الله عجلاً ومعزاة وكبشاً وشطر الذبيحة نصفين ووضعها مقابل بعضها ولكنه لم يذبح الطيرين، اليمامة والحمامة، اللذين أوصى الله بأن يكونا من ضمن الذبيحة .  وحسب تفسير القرآن طار هذان الطيران(على ما يبدو مغمستان في دم الذبائح الأخرى، فتقوت بذلك قوة الحياة فيهما) باتجاه الجزيرة العربية ثم عادتا بعد ذلك، عندما ناداها الله (البقرة 2/260) وعلينا هنا أن ننتبه إلى أن اسم امرأة موسى صفورة وهو يعني عصفور.  معنى ذلك أن موسى وقد تقبل الختان عل يد صفورة (من الجزيرة العربية!) من خلال دم الختان الذي وضعته عليه ، فتلقى قوة خارقة الطبيعة، أي أنه لقي ختاناً بقدرة مضاعفة.

 

ومهما يكن نستطيع أن نستخلص من الذي قلناه الأهمية التي كانت لابراهيم، عند موسى هذا بالذات، وهو الذي قابل إله ابراهيم.  كما أن موسى قد حقق بالخروج من مصر وهو الذي جعله ممكناً، أمراً من الله وحده موجهاً لابراهيم بخصوص ذريته.  إذ أنه لأجل الخلاص من بيت العبودية المصري بالذات قُدمت ذبيحة ابراهيم التي ذُكرت قبلاً(تكوين 15).  وبدأ يظهر الدور الذي لعبه المنحى الابراهيمي في حياة موسى.  الذبيحة والختان أتيا إلى موسى من خلال ابراهيم؛ وقد أعطاها هو طابعاً تشريعيّاً لا غير.  أما العمل الذي تفرد فيه فيبقى أنه جلب للاسرائليين الشريعة المطلقة التي كتبها الله والكتاب المقدس.  ويرتبط الكتاب هنا بالشريعة ارتباطاً وثيقاً؛ لأن موسى أعطى الشعب من خلال الشريعة دستوراً دائماً كان يحتاج أيضاً إلى تثبيت دائم.

 

ويمكننا أن نضيف إلى ما ذكرناه الانجازات التي يمكن نسبتها إلى موسى والتي قام بها كقائدللشعب في مسيرة الصحراء وعبر الأردن.  في هذا الدور أيضاً وجد موسى خلفاً له في نبي القرآن النداءات المتكررة إلى حمل السلاح في سبيل الاسلام، لا بل مراراً إلى قتل العدو (حتى الإبادة) هي من هذا القبيل. ( لم يكن المسيح ليفعل شيئاً من هذا القبيل أبداً؛ كان يعرف قانون السيف وأنه ليس بوسع السيف أن يحلَّ مشكلة في المجال الروحي) وقد طبعت هذه المبادرة التيار المحمدي فيما بعد بشكل جوهري.  أخيراً، علينا أن ننتبه إلى أن موسى في هذا الدور بالذات لم ينفِّذ في الحقيقة إلا برنامج ابراهيم الذي حققه فيما بعد يشوع باحتلاله أرض كنعان كأرض ميعاد يقيمون فيها.

 

مذهب الشرعية

 

علينا أن نرى هنا أن تثبيت الدين بواسطة الشريعة قد قاد إلى خطر التعلق الأعمى بالشريعة وهذا ما وقع فيه اليهود[3] بشكل خاص فيما بعد.  لقد أعطيت في زمن يسوع الأهمية الكبرى لخدمة الهيكل، للشريعة و السنهدرين (مجمع اليهود) من قبل اليهود؛ أما التيار المسيحاني فقد واجهوه بتحفظ.   وفي المقابل كان معظم الأنبياء الكبار من إسرائيل ومن هنا علينا أن نفهم أعمال يسوع في اورشليم:  لقد وسم هو وتلاميذه بـ "الجليليين". أما يوحنا المعمدان فلم يكن هو نفسه جليلياً لكنه كان أحد أبرز أتباع أقلية من بين كهنة الهيكل  لها تفكير يختلف عن تفكير خَدَم الهيكل الآخرين، إذ كان ينادي مع أتباعه بصحة وطرق تحقيق النبؤة المتعلقة بالخلاص والتي لم تجد تجاوباً لدى اليهود الآخرين الذين رأوا فيها خطراً يهدد ديمومة سلطان الشريعة.  ويضاف إلى ذلك أنهم أدركوا-وإن لم يكن عالقاً في الجوّ- أن يسوع كان يصرح بأن نهاية خدمة الهيكل باتت وشيكة.  ويبدو أن اليهود الهلينيين، ومنهم المصريون الذين كان لهم هيكلهم الخاص في أورشليم (ولم يكن يُنظر إليه بعين الرضا) والذين رأو في صراع يسوع، الذي اعتبر نبيّاً ، مع اليهود المتعلقين بحرفية الشريعة شأناً يخص (بدايةً) "العبرانيين" بالدرجة أولى.  هؤلاء لم يظهروا في الانجيل في أي مكان كفريق ثالث.  ولكن عند دخول يسوع الأخير إلى أورشليم يخبرنا الانجيل عن مجموعة من "متقي الله" الهلينيين الذين أرادوا أن يكلموا يسوع.

 

كانت النتيجة المحتمة لمذهب الشرعية أن تدهورت الذبيحة من عمل حي مباشر إلى فعل واجب ديني شكلي وهذا ما أبعد مقدمي الذبيحة عن معنى الذبيحة.  هكذا نفهم أمر الله من خلال فم النبي: "أريد رحمة لا ذبيحة!" (على سبيل المثال هوشع 6/6؛ متى 9/13).  ومع التشريع للذبيحة ارتبط أيضاً تشريع للأخلاقية قاد أكثر فأكثر، من خلال طابع النهي المسيطر في الشريعة، إلى حياة شكلية.  ومع الصيغة السلبية للوصية فهمت الحياة الأخلاقية على أنها عموماً كبْت للشهوانية يصبح الصراع معها أمراً ميؤوساً منه ( وهذا ما أدركه بولس في رسالته إلى أهل روما).

 

ثمة أيضاً فكرة ثانية أشد خطورة مبنية هي أيضاً على قطعية أخلاق النهي.  فقد تمَّ تفسير ما هو غير مشروط (مطلق) على أنه نهي عن كل ما يقع أبعد منه.  فأصبح أنه مع التشريع الموسوي وتطبيقه يكون قد أخذ كل شيء تمامه؛ المهم هو فقط الحفاظ على الشريعة بعناية فائقة.  وكل ما يذهب إلى أبعد مما تنص عليه الشريعة غير مسموح به.  هذا الأمر بالذات كان موضوع نقاش يسوع مع اليهود في شأن السبت.  بالنسبة لهؤلاء اليهود يتمم الانسان عمل كل شيء حينما ينفذ الشريعة (وقوانين الشيوخ) بكل حذافيرها، مثلما أن الله استراح في اليوم السابع بعدما عمل طيلة ستة أيام.  فعلى يسوع، حينما يعمل من أجل الخلاص، ألاّ يخالف الوصية المتعلقة بالسبت.  كانت كلمة يسوع الأولى في أورشليم عندما اتهمه اليهود بأنه يخالف وصية السبت:  "إن أبي يعمل حتى الآن وهكذا أنا أيضاً أعمل" (يوحنا 5/17)، فكان لهذه  الكلمة وقع ضربة بالهراوة على اليهود.  فعنده أن لتحقيق ما هو أعلى أولية في الوصية التي أعطيت لابراهيم، كان فهم يسوع، حسب ما نستنتجه من كلامه هذا، يذهب إلى أبعد مما فهمه الفريسيون بخصوص الخلق ؛ فالخلق يعنى بالنسبة له أنه يكتمل في عمل الخلاص.  لقد حددت وصية السبت سلوكاً يتعلق في الوقت نفسه بحق الله وبما أُسس من أجل البشر؛ ومن هنا بالذات بدأ الخلاف الذي وصل في نهاية الأمر بما وضعه موسى من تحديد صارم إلى قطع الطريق أمام ما بدأ به الأنبياء .  فالكلمة التي حاول بها رؤساء الكهنة أن يفرضوا رأيهم حول إعدام يسوع كانت: "عندنا شريعة وحسب هذه الشريعة يجب أن يموت" (يوحنا 19/7)، كلمة تقدم النتيجة الأخيرة والقصوى الناجمة عن تضييق الخناق الشرعي للقانون.

 

ذبيحة ابراهيم

لنعد من هنا إلى ابراهيم ولنفكر بالمعنى العميق لذبيحته التي تناولها موسى من بعده.  في أرض كنعان التي فيها قدمت الذبيحة كان القسم الأكبر من الشعوب المقيمة هناك على درجة من الانحطاط بحيث أن البعض كان يجعل أبناءه "يمرون في النار" أي أنهم كانوا يقدمونهم كضحية للأصنام (الإنعام 6/137) أضف إلى ذلك أن الذبيحة الدموية كانت ،بالنسبة للذي يقدمها، مرتبطة في زمن عبادة الأصنام بنشوة أمام رؤية الدم.  يقول الله لموسى " "إذا دخلت الأرض التي يعطيك إياها الرب إلهك فاحمِ نفسك من أن تعمل هذه القبائح مثل قبائح الأمم.  لا يكن فيك من يحرق ابنه أو ابنته بالنار و لا من يتعاطى العرافة والتقسيم والتكهن والسحر، لا من يشعوذ ولا من يستحضر الأرواح ولا من يستشير الموتى.  لأن كل من يصنع ذلك هو قبيحة عند الرب وبسبب تلك القبائح سوف يطرد الرب إلهك هذه الأمم من أمامك" (الاشتراع 18/9-12).  إن فظائع الكنعانيين هذه كانت السبب الأساسي الذي جعل الاسرائيليين يطردونهم عندما احتلوا أرض الميعاد.  فأي اختلاط مع أولئك المنحطين سوف يكون له حتماً –كما سيظهر ذلك مراراً مع مرور الناريخ- عواقب وخيمة ( لنتذكر إيزابيل وأتالية).

 

كانت طقوس عبادة الأصنام في نظر ابراهيم أمراً شنيعاً.  كانت زوجته سارة (في ذلك الوقت مازالت تدعى ساراي) من بلاد مابين النهرين.  عندما اتخذ له امرأة ثانية كون سارة عاقراً اختارت له سارة امرأة مصرية أنجب منها خلفاً، وهو اسماعيل.  لم يكن يريد بأي شكل من الأشكال أن يأخذ ابنه اسحق "امرأة من بنات كنعان" ولذلك أرسل أحد غلمانه إلى أقربائه في بلاد مسقط رأسه وأتى هذا برفقة (تكوين24/304).  ولم يشأ اسحق ورفقة أيضاً أن يتزوج ابنهما يعقوب من "امرأة كنعانية" ولذلك أرسلاه إلى جده في بلاد النهرين (أو آرام) كي يتزوج عنده.

 

لا بد وأن أمر الله لابراهيم بأن يضحي بابنه الخاص قد شكل له مشكلة مرعبة، إذ ظهر له من جهة أن الله حينما يطلب منه أن يقدم ابنه ضحية، وهو الذي منح ابناً للوعد، فإنه لا يختلف بشيء عن آلهة الكنعانيين وهي أصنام.  ومن جهة أخرى لا بد وأن يكون قد حدث في داخله بالمقابل إدراكٌ لما هو أسمى، لم يستطع تصوره، وهو أن الله سوف يتدخل ليمنعه من التضحية بابنه.  لقد حصلت في هذه اللحظة قفزة مهمة: لقد أصبح للحياة معنى مغاير وأكثر سمواً؛ فذبيحة كالتي عند الكنعانيين غير مسموح بها ولا يجوز أن تتم.  ورغم ذلك أطاع ابراهيم وباشر بالذبيحة؛ وفي هذه اللحظة بالذات منح الله ابراهيم معرفة أسمى، أصبح بموجبها تقديم الذبيحة بالمعنى الطبيعي السائد أمراً مرفوضاً.  إن معنى ضحيته الذي تمَّ كاملاً في النية يرفع إلى حياة أرقى  ويوكل إلى رعاية ابراهيم .

 

ومنذ تلك اللحظة خرج ابراهيم واسحق من نظام الطبيعة المغلق الذي يسير عليه الوثنييون؛ لم يعودوا أبناء الولادة الطبيعية (وهي تبقى بالطبع) إنما بمعنى القبول فوق الطبيعي: أبناء التبني.  والعلامة الخارجية لهذا القبول هي الختان؛ أما العلامة الداخلية فهي الارادة غير المشروطة بالسير على هدي الله.

 

لقد وعد الله ابراهيم من قبل بنسل وافر وسيكون لهذا النسل الأفضلية عن باقي الأمم؛ وعده بأرض كنعان كأرض سيملكها في المستقبل ومن خلال ملكيصادق وعده بأنه سينتصر على كل الأعداء.  عندما اشتكى ابراهيم إلى الله بعد النصر الذي حققه في كدرلاعومر بأنه بسبب عقم سارة لن يحصل على أي ابن من صلبه،  أي أنه لن يستمر في الحياة إلا عبر توالد من يشاركه الحياة في الخيمة،  هنا وعده الله أنه سوف يحصل على "وارث من دمه الخاص".( يجب أن ننتبه هنا إلى أن الله بإرادته بأن تكون سارة عاقراً كان يريد أيضاً مساعدة ابراهيم كي ينعتق من مبدأ النظر فقط إلى النسل المرتبط بالدم).  ونزولاً عند رغبة سارة يأخذ ابراهيم هاجر المصرية زوجة ثانية له كي تنجب له من حضنها ابناً نيابةً عن سارة.  وحينما عاملت سارة، وبموافقة ابراهيم، هاجر بالسوء وأجبرتها على الهرب، بسبب غيرتها منها، أخذ الله نفسه هاجر تحت عنايته.  أمر ملاك الرب هاجر وهي في طريقها إلى شور بأن تعود إلى سارة وتخدمها " أنت حبلى وستلدين ابناً وتسمينه اسماعيل لأن الله سمع صوت شقائك!" (تكوين12/11).

عادت سارة وولدت ابناً وسماه ابراهيم الاسم الذي عيّنه الله.  وأصبح لابراهيم الآن خَلَفٌ من صلبه.

وصية الله : كن كاملاً

الآن يحصل أمر حاسم سوف يحدد مسار التاريخ فيما بعد على الآف السنين . يظهر الله لابراهيم من جديد ويقول له : " أنا هو إيل شداي ( الفائق القدرة ) ! سر أمامي وكن كاملاً!" لقد عرف الناطق بالقرآن معنى وحجم هذا الطلب بكل أبعاده . لكن ترجمة هذه الكلمة ( كامل ) إلى اليونانية : بشكل كاملTeleos   و إلى اللاتنية PERFECTUS لا تعطي المعنى الفصل للكلمة لا بل أنها تحرفه . وليس المقصود أن على إبراهيم أن يحقق هذا الهدف المعطى له فقط أو أن يتمَّ تحقيقه فيه هو . يأمر الله : كن مسلماً , أي كن في سلام تام وعميق أكثر ما يمكن مع الله , وذلك بأن تدخل في سلام من خلال أعمالك والله يقودك في الوقت نفسه نحو هذا السلام : مسلماً        ( صيغة المبني للمجهول من فعل سَلِمَ ) ويستعمل القرآن هذه الكلمة في كل جناسها , ومنه أيضاً سلم بمعنى " وفي الدَّين " . وكان سفر التكوين سبق وسمىَّ أخنوخ ونوح "كاملين " .

 

إن طلب الله " كن كاملاً ! " يشير الى أقصى ما يجب أن يكون : " ما لا يمكن التفكير بأحسن منه " لو أردنا التعبير عن ذلك من خلال العبارة الفلسفية التي أستخدمها أنسلم (للبرهان عن وجود الله ) إن فكرة الكمال هذه بالذات في معناها الروحي البليغ لا نجدها في شريعة موسى

 

فالشريعة ولأنها شريعة تعمم . أما النداء نحو السلام الكامل في الله فيتطلب أقصى ما يمكن . كما قال فيخته بخصوص القانون الأخلاقي عند كَنْتَ , لا بل  ابعد من ذلك : " عليك أن تحقق أخلاقياً ما يمكنك أن تحقق !" . ومع هذا الأمر بالكمال ندخل عتبة الأخلاق السامية .

 

إن مطلب الهه هذا هو المدخل إلى عقد العهد مع إبراهيم ونسله . لم يعد العهد متعلقاً بالنسل المؤسَّس على القرابة الدموية بالمعنى الحصري للكلمة المتأتية بالولادة , وإنما بالبنوّة الناجمة عن القبول ؛ أما العلامة الخارجية التي تجعلنا نميِّز البنَّوة على ِأساس التبني من البنوة الدموية فهي الختان . " سيكون لعهدي علامة في أجسادكم " . ( تكوين 17/13 ) . كل إنسان مختون هو تابع للعهد : أي حتى الغريب وإن لم يكن من سلالة إبراهيم الطبيعية ؛ بينما ابن العائلة غير المختون يُفصل من النسل . فليس من العجب أن نرى إبراهيم عاجزاً عن أن يصِّدق أن الابن الذي سوف تنجبه سارة حسب كلمة الله , سيكون هو وريث العهد بكامله , وأنه كان على خطأ حينما اعتقد أن الله يقصد إسماعيل ( تكوين 17/18 ) الذي أستطاع أن يفي بكل الشروط كأول إنسان اختتن .

من البديهي أن إبراهيم ونسله في الختان لم يستطيعوا أن يفهموا محتوى هذه الفكرة العظيمة ؛ غير أن الأمر الذي أعطاه الله بالكمال سوف يصبح ابتداءاً من هذه اللحظة مبدأ حياتهم  وبعد أن تمَّ هذا كله مع ابراهيم استجاب الله لرغبته في أن يكون له نسل من لحمه ودمه بشكل كامل . 

 

إن المعنى الذي يحويه " السير في سلام كامل " نوعياً سوف يدركه إبراهيم بكل أبعاده حينما يقبل الله منه ذبيحة إسحق . يضحي إبراهيم بحياته الأرضية في شخص اسحق , وبذلك لم يعد بإمكان أي هوى طبيعي أن يعيِّن إرادته فيخضع لله . ولكن لن يكون كافياً أن نقول ( فقط) في هذه الطاعة التامة إذ أنه قد استنفذ معنى وصية الكمال ؛ لأن هذه الطاعة تتحقق في ذبيحة كاملة . إن الطاعة التي تتم دون ادراك المطلوب منها تبقى عمياء .

 

الذبيحة

منذ أن وعى الإنسان الحياة عرف الذبيحة . ليس الموضوع مجرد سفك للدماء ؛ وإلا لكان ذلك ذبحاً و قتلا . بل بالأحرى يقدم دم المضحَّى به , والدم يساوي الحياة , من أجل شخصٍ يتقّبل الحياة من الذبيحة على أنها تقدمة قوة الحياة التي في الضحية . ولكن بقي دوماً شيء غير كافٍ في الذبيحة , أو الشيء المضحى به يجب أن يكون ذبيحة مقدِّم الذبيحة الذي لا يريد أن يقدم دمه الخاص ( حياته الخاصة ) وإنما يقدّم كبديل عنها دم ( حياة ) الضحية . إذا كان هو نفسه يكفِّر عن نفسه بواسطة هذا الدم فإنه لا يكفِّر بدمه ( بحياته ) الخاص – وهذا هو النقص الثاني . إن الضحية تعطي دمها ( حياتها ) كبديل لذا تعتبر بموجب ذلك غير مذنبة . ونجد حتى عند الشعوب البدائية وعياً لهذا الأمر . ولكي لا يجلب المرء على نفسه ذنب هدر دمٍ زكي حاول أن يرفع موت الضحية بنقله هذا الدم على صورته . وعلينا أن نلاحظ هنا أنه في العصور الأولى لتشكل الوعي كان للصورة ذات الحقيقة لا بل أحياناً حقيقة أكبر من حقيقة ما هو حقيقي . فحينما كان المرء يضع الدم على صورة الشخص المضحَّى به , كان يتم بذلك الحفاظ على حياته – هكذا كانت الفكرة .

وتعظم قيمة الذبيحة , بقدر الكمال الذي كان عليه الحيوان أو الإنسان المقدَّم كذبيحة . فإذا كانت الضحية انثى وَجَب أن تكون عذراء ؛ وإذا كانت حيواناً وجب أن يكون طاهراً وبلا عيب . وقيمة الذبيحة تنوب عن عظمة وطهارة الإرادة بالذبيحة عند الذي يقدمها . فإبراهيم اذاً قد قدم في إسحق أكبر وأعظم ما يمكن أن يضحي به : حياة نسله – ويجب فهم الحياة هنا ليس بالمعنى الحسي وأنما فوق الحسي : ذبيحة الله الواحد , وحسب مشيئته وهذا يفترض لدى إبراهيم دافعاً آخر , لم يكن باستطاعه الوثني أن يحصل عليه .

ومع ذلك كله لم تكن ذبيحة إسحق بعد ذبيحة كاملة , بل كانت فقط مسبقة للذبيحة الكاملة . لقد ضحى إبراهيم إطاعة لأمر فقط ولم يقدِّم ضحية عن محبة تعطي كل ما عندها بكامل حريتها ( كما سيكون ذلك مع يسوع لاحقاً ) . كما أن ذبيحته لم تكن ذبيحة تكفيرية تكِّفر بالنيابة عن خطايا الكثيرين الذين – وهم في حالة الخطيئة – كانوا عاجزين عن التكفير عن خطيئتهم بشكل كافٍ .

ولهذا السبب بالذات لم يتوجب على إبراهيم في إتمامه للذبيحة أن يذهب طريق الإتضاع إلى أدنى مستوياته , لأنه لم يقدِّم بعد أي ذبيحة تكفيرية تعوض خطايا البشر ضد الله . أما يسوع فقد جعل من نفسه خاطئاً-وليس فقط بطريقة "كما لو أن " بخطيئة المخطئ :" هو الذي لم يعرف الخطيئة صار لأجلنا خطيئة كيما نحقق به بر الله" (1 كورنثس 5/21). ويقابل عمق هذه الخطيئة التي يجب التكفير عنها عمق المهانة والإبادة .

 

النوعية الأخلاقية للذبيحة

ومع أن ذبيحة إبراهيم لم تكن كاملة إلا انها حققت طلب الله بقدر المستطاع :"كن كاملاً !" وبهذا المعنى ,أي بقدر الممكن كالنت الذبيحة كاملة ، فمنذ اللحظة الأولى التي تحوَّلت فيها ضربة ابراهيم القاضية الى حياة أرفع لإسحق لم يعد الله واقعياً فائق القدرة بالدرجة الأولى . لقد أصبح الآن مبدأً لحياة روحية : إنه القدوس . وهذا يعني فلسفياً: أن المبدأ الباهي يحل محل مبدأ "واقعي" كمبدأ أعلى , ليس بصفته معيِّتاً فقط , وإنما في ذات الحين مبرِّراً نفسه من جوهره أي الخير.

قام الوعي بجهود كبيرة ليدرك ذلك , وقد استمر الأمر حتى ظهور النشيد الثلاثي التقديس في سفر أشعيا , حيث برز التقييم الثلاثي عبر اللغة . كان الانبياء بحاجة الى قرون عديدة كي يستأثروا بفهم القيمة الخاصة بذبيحة إسحق قبل أن يستطيعوا التدليل على الذبيحة الكاملة , ذبيحة يسوع .وفكرة عبدالله في كتاب أشعيا أو فهم موت الضحية في المزمور 21 هما أقرب ما يكون من هذا الفهم.

 

ذبيحة يسوع الكاملة

لم يدِّلل الناطق بالقرآن على هذا المعنى الخاص الذي أعطاه الأنبياء للذبيحة لذا علينا أن ندقق في تفسير كلمة "المسيحانية" كي ننتقل بعد ذلك الى الكلام عن المسيحانية الفدائية الخاصة بالأنبياء . هذه المسيحانية التي لا يأتي القرآن على ذكرها .

لم ينظر القرآن إلى تضحية إبراهيم لاسحق بهذا الشكل , أي أنها بمثابة صورة مسبقة لذبيحة كاملة منتظرة , لذا نراه لا يعطي لهذه الذبيحة أهمية خاصة . ولكن في اللحظة التي بدأت تتم فيها الذبيحة ظهر للعيان أن حياة روحية  قد بدأت فاكتسب قصد هذه الذبيحة أيضاً معنى روحياً (أخلاقياً). وعوض الموت الجسدي أصبح هناك إمكانية الموت الروحي وكما أنه واجب على الانسان أن يرد َّعن نفسه الموت الجسدي كذلك يجب عليه أن يفعل بالنسبة للموت الروحي ويحصل الموت الروحي بارتكاب ذنب أخلاقي وفي شكله الأقصى في الخطيئة " ضد الروح القدس"  مبدأ الحياة الروحية. بهذا المعنى أصبح للتكفير معنى أرقى : على التكفير أن يرفع الشر, أي أن يصلح ما هدمه الشر في العالم .

وفي موت يسوع تم التكفير بالمعنى الأسمى للتكفير أي التعويض الكامل (1 كورنثس :1) فبما أنه ضحى بذاته , كانت ذبيحه كاملة ولم تُبق على ما لم يتم التكفير عنه .  لقد ذهب متعمِّداً إلى الموت التكفير بكامل حرية إرادته . لم يَحْرس رفعته الإلهية كما تُحرس سرقة (فيلبي :2/6) بل قَبِل دون تأمين رجعي أدنى درجات الضعة . لا يوجد اهانة أو جراح إلا وعاناها . وبهذا افتدى كل من أراد قبول هذه الذبيحة من الموت الروحي .

حسب أنجيل يموحنا كانت كلمة يسوع الأخيرة على الصليب : "لقد تم" (TELESTAI). وقد ترجم إيرونيموس هذا التعبير اليوناني غير الكافي باللاتنية إلى :CONSUMATUM EST  "تم" تعني هنا في الواقع تماماً ما كان  يعنيه العهد القديم في قصة إبراهيم على أنه "كامل": مسلماً بتعبير القرآن . وبالتعويض الذي تم بالتكفير , أصبح السلام الكامل مع الله وفيه واقعاً. لذلك فإن الكلمة الأولى التي نطق بها القائم من بين الأموات في عشية الفصح إلى رسله : شالوم! بذلك رُفِعَتْ خطيئة العالم .

 

 

الذبيحة بمفهوم القرآن

لننظر في فهم القرآن لذبيحة التكفير من خلال العرض الهام حّول هذا الموضوع , كما جاء في سورة البقرة وفي الآيات 67-73. بعدما عاد اليهود وسقطوا في عبادة الأصنام وعبدوا العجل الذهبي قال لهم موسى العائد من جبل سيناء إن الله يأمرهم بأن يذبحوا له بقرة . أجابه الإسرائيليون: وهل تريد منا أن نسخر من أنفسنا ؟ ( علماً بأن الناطق بالقرآن يفكر هنا بطريقةٍ مشابهة لما كان يفعله أبناء عصره ) ويتابع موسى قوله : لقد أمر الله بألاّّّّّ يكون الحيوان غير طاهر : ويوضح هذا الطلب بعظم خطيئتهم .يجب ألا تكون البقرة مضناة بسبب البحث عن الطرق أو أعمال الفلاحة ويجب ألا يكون فيها أي عاهة جسدية ؛ وباختصار يجب أن تكون البقرة كاملة (سليمة) وتقدمة طاهرة . وبعد ذبحها يجب أن ترفع أمام الإسرائيلين ليعرفوا أنها " عوقبت لأجلهم ( بسبب خطايا ) اولئك الذين ينظرون إليها " . (راجع يوحنا : 19/37 :" سوف ينظرون إليه"، هذه الآية تعود إلى سفر النبي زكريا 12/10) . يقول الإسرئيليون لموسى بأنه بهذا التوضيح قد جعلهم يفهمون الشريعة التي أعطيت لهم والآن يقدمون البقرة كذبيحة، الأمر الذي امتنعوا عنه من قبل . يقول لهم النبي بعد ذلك " وإذ قتلتم نفساً فادَّرأتم فيها والله مخرجٌ ما كنتم تكتمون " .

 

يرى الناطق بالقرآن إذاً أن قيمة الذبيحة يجب أن تتلاءم مع حجم الخطيئة ؛ وعندئذ فقط تكون الذبيحة " كاملة " . كانت الضحية تتحمل العقوبة بسبب خطايا الآخرين أي خطايا أولئك الذين يقدمون الذبيحة التي تحمل حسب نظرتهم إثمهم . إن رؤية الحيوان المذبوح أي عمل التكفير الذي تم , يطهِّر الذي يقدم الذبيحة أو الذين تُقَدَّم الذبيحة من أجلهم .

 

بهذا نكون قد عثرنا على الأفكار الأساسية التي كانت سائدة أيضاً في الذبيحة التكفيرية عند الوثنيين , غير أننا نرى كل المسافة التي تفصل الذبيحة التي تتوافق مع الشريعة حسب القرآن عن الذبيحة الكاملة الحقيقية . إنها توفر عن الذي يقدم الذبيحة أن يقوم بالتعويض بمجهوده الخاص ثمَّ أنها تقَّرب من أجل الخطئية المرتكبة ذاتياً وليس لأجل خطيئة لم ترتكب إلا من الغير .

 

لنَدَعْ جانباً ما إذا كان الناطق بالقرآن في وصفه وشرحه للذبيحة هذا قد فكَّر بممارسات طقسية كانت تمارس من جديد في هيكل أورشليم أو في الكعبة في مكة .

 

غير أننا نستنتج بوضوح أنه لم يدرك معنى الذبيحة العميق، أن الله قد أخذ جسداً وأنه يمكنه أن ينزل إلى أقصى درجات الضعة . فليس بوسعه أن يوفق ذلك مع تعالي عظمة الله ولن يقبل بها . كما أنه لا يدرك أيضاً المحبة التكفيرية ( التي كانت عند يسوع ) . فحينما يتكلم عن الله على أنه رحمن فهو لا يعني المعنى الذي في كلام يسوع . إن التعبير " الله رحيم " يعني بالنسبة للقرآن أن الله يسامح بصدر رحب ويغفر الخطيئة ( حتى ولو لم يكفَّرعنها بالواقع ) ولا يحسبها من بعد . حتى الوصية الواردة في سفر تثنية الإشتراع : أحبب الرب الهك (..) وقريبك  كنفسك " ليس لها ذات المعنى تماماً كالذي عد يسوع المسيح . تعني كلمة "محبة " هناك : الاستحسان بكامل الوجدان . ( والقريب يعني فقط من يتمي الى شعب إسرائيل ) . لقد كشف يسوع عن المحتوى النوعي لهذه الشريعة الراقية من خلال الإضافة التي  أضافها على الوصية بقوله :      " أحبوا الله وبعضكم – كما أنا أحببتكم!" .

 

فقدان الذبيحة الطقسية

مع عدم ادراك معنى الذبيحة كما هو عند يسوع بقي الناطق بالقرآن محصوراً في حيز التوراة . لم يتم الوصول الى اللُّبّ في ذبيحة إبراهيم الذي يحوي الثمرة ؛ لم يكفّر الله بالمسيح عن الإثم الروحي .

ما هي النتائج المترتبة على ذلك ؟ يمكن أن تفهم الذبيحة في أحسن الأحوال بالمعنى الحصري الذي كان عند موسى . ولكن حتى هذا الفهم يفترض وجود مكان تقام فيه الذبيحة . والحال أن أورشليم كانت ( من جديد ) في أيدي الرومان الشرقيين , وكان القيصر هرقل قد احتلها من جديد وأعاد الصليب المقدس من بلاد فارس . ولكن عندما أعلنت الكعبة في مكة على أنها المكان المقدس بالنسبة للمسلمين ، لم يكن تقديم الحيوانات من جديد كذبيحة بالأمر الطبيعي. ولأسباب سوف نأتي على ذكرها لاحقاً أصبح المسجد بيت صلاة لا غير .

 

أين هيكل الله ؟

 

علينا هنا أن نعود مرة أخرى الى ذبيخة يسوع الكاملة بموته على الصليب وكان مقدم الذبيحة هو والمذبوح هو نفسه وبذلك أصبحت ذبيحة التكفير التي كانت تجري في الهيكل غير كافية وبالنتيجة ألغيت .

لقد كان ذلك فكرة وارادة وعمل يسوع منذ البدء وهذا ما تبينه لنا الأناجيل المقدسة .

عندما صام يسوع أربعين يوماً وردَّ عنه عرض الشيطان بأن يكون له سلطان يفوق الطبيعة بمساعدة حقيقية من كائن غير حسي أتت ، كما يخبرنا مرقس ، الملائكة إليه وكانت تخدمه. وعندما عاد يسوع بعد ذلك إلى نهر الأردن وتبعه التلاميذ الأولون تذكَّر  خدمة الملائكة هذه :" سترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن البشر ." (يوحنا 1/51) . إن لهذا القول معنى عميقاً لم يدرك في معظم الاحيان ، وكي نفهمه لا بد لنا من العودة مرة  أخرى الى العهد القديم . عندما أرسل إسحق ابنه يعقوب الى نسيبه لابان الى بلاد ما بين النهرين كي يبحث عن امرأة له هناك عمل العمل نفسه الذي كان أبوه إبراهيم سبق وعمله ؛ لم يكن يريد أن تكون له كنه كنعانية إنما من النسل الذي انحدر هو منه . لكن أصل هذا النسل من أور , مدينة السومرين." فكان أبناء النسل اذاً يعرفون بالتأكيد الطقوس العبادية عند البابلين والسومريين. " عندما رحل الناس إلى الشرق وجدوا في أرض شنعار سهلاً فأقاموا هناك وقالوا بعضهم لبعض:(...) لنبن لنا مدينة وبرجاً يصل إلى السماء." (تكوين 11/2-4).  البرج المذكور هنا هو جبل الهيكل.  حسب تصور البابليين كان السهل الذي شيدوا فيه المدينة والهيكل هو تمثيل على الأرض لما هو الحال في السماء.  فإذا أخذنا بنقطتي الأوج لمدار الشمس ومدار القمر في مسيرهما السنوي ونظرنا إلى الحيز الذي بينهما على أنه واد فيمكننا أن نظن أن سهل الفرات الواقع بين الجبال السورية والجبال العيلامية هو بمثابة صورة عن التنظيم السائد في السماء. المدينة المقدسة مع الهيكل الذي فيها تقع في وسط هذه المرتفعات وهي تعتبر سرة العالم.  إن الناطق بالقرآن يعرف ذلك بدقة ويتكلم عن هذا السهل كبكَّة (آل عمران 3/96). (بهذا المعنى تقع البكة (البقاع) بين جبال لبنان الغربية والجبال الشرقية). كان موقع الهيكل (بأدراجه الملتوية نحو الأعلى في وسط المدينة وباسمه سُميت المدينة: سمي (البرج) باب-إيل، الدرج إلى الله وهو الموضع الذي فيه يلامس الأرضيون السماء (سماء النجوم).  لقد وعد الله ابراهيم بأن تكون أرض كنعان ملكاً له في المستقبل؛ أما هو فكان لا يزال غير مستقر يبني هيكلاً هنا أو هناك ويقدّم عليه ذبيحة لله.  وفي طريقه إلى أرض الفرات وصل يعقوب إلى مكان معين ونام.  وفي هذا المكان رأى في الحلم ملائكة تصعد وتنزل على سلَّمٍ.  في هذا الحلم جدد الله وعده الذي أعطاه سابقاً لابراهيم.  وعندما استيقظ يعقوب صرخ بتعجب وقال: "في الحقيقة كان الله في هذا المكان وأنا لم أعلم ذلك."  خاف وقال: "ما أرهب هذا المكان؛ ما هذا إلا بيت إله وباب السماء."فأخذ الحجر الذي كان يسند رأسه عليه أثناء النوم ويحلم، ونصبه كنصب وسكب على أعلاه زيتاً. "وسمى ذلك المكان بيت-إيل.  سوف يكون هذا الحجر الذي جعلته نصباً بيتاً لله." (تكوين 28/10-22).

 

هنا لا يرتفع الإنسان إلى السماء بل ينزل الله إلى الإنسان ويقيم له بيتاً عنده.  وبهذا تصبح الخيمة المتنقِّلةحتى الآن مكاناً ثابتاً يسكن الله فيه على الدوام بين أبناء إبراهيم.

 

وإذا فهمنا ذلك نستطيع أن نفهم ماذا كان يعني نزول وصعود الملائكة على ابن البشر بعدالانتهاء من التجارب: يسوع نفسه هو الآن بيت-إيل، هيكل الله. "اهدموا هذا الهيكل"  يقول يسوع لليهود في هيكل أورشليم "وأنا أبنيه في ثلاثة أيام"، "غير أنه كان يتكلم عن هيكل جسده." (يوحنا 2/19-21) لذلك انشقَّ حجاب قدس الأقداس في الهيكل إلى شقين بعد موت يسوع التكفيري: لم يعد بالامكان قيام الذبيحة في الهيكل؛ تتم الذبيحة على الدوام في روح وجسد يسوع.

 

إنه لأمر أساسي بالنسبة للناطق بالقرآن أن يكون لله بيت مركزي بحسب ما تصور هو فهم التوراة.  أصبح لأوامر موسى حول تشييد الهيكل المكانة المركزية بين وحي الله الحرفي والقوانين الموسعة التي أدخلها موسى على الشريعة.  لقد أظهر الله لموسى النموذج السماوي أمام عينيه.  ولكن لما ضاعت أورشليم مرة ثانية اختار الاسلام له مكاناً لله الكعبة في مكة.  يذكر الناطق بالقرآن سبب هذا التغيير :  وصل ابراهيم خلال تجوله في ربوع البلاد إلى مكان دعي فيما بعد مكة، وشيَّد هناك مذبحاً فأصبح هذا المكان مقدساً إلى الأبد. (لا يوجد حجة مقنعة تحملنا على القول بأن ذلك اختراع من الناطق بالقرآن .  فبعد أن قيل انه كذلك نجد في التقليد الرابيني وفي تقاليد أخرى ما يحمل على القول بأنه ليس كذلك!)[4] حتى بيت –إيل لم يبق بالنسبة للاسرائيليين بيت الله الثابت.  فقد بنى سليمان الهيكل لاحقاً في أورشليم، في المكان الذي أراد ابراهيم أن يقدّم ابنه اسحق كمحرقة.  ومع خروج اليهود عن إيمان التوراة الحقيقي بمعارضتهم ليسوع سلم الله الوعد- حسب قول القرآن- إلى اسماعيل بحيث اكتسب الاسماعيليون الحق بتحديد مكان "المقدس المكرم". إلا أنه أصبح مكان سماع كلمة الله و اندثرت في الاسلام وفي اليهودية الرابينية الشعائر الطقسية الخاصة بالذبيحة . نعم، يقدِّم حتى اليوم الحجاج الذين يحجون إلى مكة كل سنة مئات الألوف من "الذبائح" قرب الكعبة ولكن ليس على مذبح (راجع سورة الحج: 22/28).  إنه تعبير مؤثر عن مطلب الانسان المتديِّن الذي لا يجد له تحقيقاً.  إن المسيحيين الكاثوليك (بمعنى المجمع الأول) وحدهم هم الذين حافظوا على الذبيحة.  ولكن كم من الذين يلقبون أنفسهم بأنهم كاثوليك لا يزالون يقدِّرون ذلك على قيمته السامية الحقيقية.  إنهم قلَّة أمام أصحاب "النظام الجديد" المزعوم الذي ينادي به " الكاثوليك" الرومانيون دعاةُ الاصلاح.

 

سلسلة الأنبياء

 

إذا كان الناطق بالقرآن يحسب بعد النبي يونان أيضاً يوحنا المعمدان ويسوع المسيح من عداد الأنبياء الأصليين الذين لم يسمع لهم اليهود وبذلك حسبت على اليهود خطيئتهم إلى درجة أن الناس نظروا إليهم منذ ذلك الوقت كفرقة منشقة ، إلا أن هذا لا يعني من جهة أخرى أنه وافق على الذبيحة الكاملة التي قدمها يسوع أو حتى أدركها.  كان يوحنا و يسوع نبيين مثل باقي الأنبياء أيضاً .  ويدَّعي القرآن ،كما هو الحال في الانجيل أيضاً، أن يسوع وُلِدَ من مريم دون تدخل رجل وأنه المسيح المنتظر؛ لكنه ليس ابناً لله ولا هو الله.  لقد تنبأ يسوع بالأحرىوأشار إلى النبي الذي سوف يأتي والذي بلَّغ عنه موسى (تثنية الاشتراع 18/15)، والذي يتكلم الآن في القرآن: "سوف يقيم لك الرب إلهك نبيّاً مثلي من وسطك ومن أخوتك فله تسمعون." يضع الناطق بالقرآن هذه النبوءة عن النبي العتيد  في فم يسوع مباشرة إذ يقول: " وإذا قال عيسى ابن مريم يا بني اسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين." (الصف: 61/6).

 

زال بالنسبة لليهود الايمان والأمل بالمسيح المعلن عنه في الشريعة والأنبياء عندما أبيد الهيكل وسقطت أورشليم (في سنة 537) بالرغم من محاولات لإبقاء تلك الامكانية قائمة بتحوير في تفسير مبدأ عدم التناقض. فمنذ عهد ملاخيا أي منذ 1100 سنة لم يظهر على ساحة التاريخ أي نبي.  غير أن الأمر يبدو للناطق بالقرآن مختلفاً.فباعترافه بزكريا ويوحنا المعمدان ويسوع على أنهم أنبياء حقيقيون يريد أن يقول بأن سلسلة الأنبياء (منذ موسى وداود) لم تنقطع؛ فالمدة الزمنية بين ملاخيا ويسوع ليست أطول من المدة بين يسوع ونبي القرآن. بهذه النظرة يكسب الناطق بالقرآن أمراً عظيماً : خط الأنبياء (مفهوماً بالمعنى غير الفدائي)لم ينتهِ دون جدوى؛ الكتاب المقدس لم يكذب؛ لقد وجد الله باستمرار من آمن به حقاً وبقي على الايمان المستقيم من خلال أنبياء لاحقين.  نعم، تجد سلسلة الأنبياء في المبشِّر بالقرآن آخر حلقاتها ممَّن يتمم الوعد.  وهكذا تم بضربة واحدة القضاء على عذاب اليهود الرابينيين الذي لا يطاق وهذا في عصر كان فيه فهم الكتاب المقدس من خلال أحداث مشابهة في القرآن حياً جداً وقادراً على الإقناع. يستطيع المسلم أن يؤمن من دون أن يكون هناك تناقض داخلي؛ أما اليهودي فلم يعد يستطيع ذلك بحسن نيَّة.

تفسير يسوع

 

بالنسبة  للمسيحيين وصل الدين مع يسوع إلى أوجه ؛ لا يمكنهم بعد موته وقيامته وحتى الدينونة في الآخرة إلا أن يشهدوا لحقيقته . بالنسبة للقرآن فإن يسوع هو نبيٌ بين الأنبياء تنبأ بمجيء نبي القرآن كما تنبأ النبي يوحنا بمجيئه ." لقد كفروا الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم ."( المائدة :5/72). " ما المسيح ابن مريم إلا نبي قد خلت من قبله الرسل ."( المائدة :5/75). " لعنوا الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوه وكانوا يعتدون".  يهود رابينيون ومسيحيون ( يؤمنون بأن المسيح إله )" كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون , ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا." ( المائدة : 78-80).

 

لم بيشر يسوع كباقي الأنبياء إلاَّ بإيمان التوراة الخالص ؛ كان عنده " الفهم " الحقيقي لمعنى هذا الإيمان . "وأتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وأتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس" ( البقرة :2/87 ) ؛ هذه البينات بالذات كانت أيضاً عند المبشر بالقرآن (البقرة : 2/100).

 

أمام هذا التقييم من قبل القرآن يفاجأ المسيحيون ويستغربون أن الناطق بالقرآن يشاطر الدوقيين الرأي بأن يسوع في الحقيقة وفي الواقع لم يتألم على الصليب . إنما أعمى الله أعداء يسوع من اليهود حتى فكروا بأنهم يرون , بينما كان الله قد قدَّر بأن إنساناً آخر عوض يسوع هو الذي كان يتألم ." أولئك هم الكافرون وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً (...) وقولهم أنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبِّه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه ."(النساء : 4/151,166-158). أعتقد أنه لا يصح تأييد من يقول من علماء القرآن أن الناطق بالقرآن قد حصل على هذا المفهوم من المسيحيين الدوقيين بطريق العرض . فالموضوع هو أكثر من ذلك وهو يفصح عن موقف الناطق بالقرآن من "الجسد" . لم يكن ليقبل بأن يهان نبي في جسده مثل تلك الأهانة . ذاك أن " المادة والجسد المادي لا يمكن أن يكونا بحد ذاتهما شيئين شائنين , كونهما مخلوقان من الله , كما سوف يقول يوحنا الدمشقي في مباحثته مع الاسلام , وهذا ما لم يره الناطق بالقرآن . وبه يرتبط الجانب الأكثر ضعفاً وهو أن الناطق بالقرآن يرى في الجماع الجنسي شيئاً قذِراً لا تنزع دناسته , لكن الله كونه خالقنا , يتغاضى عنه ويغفره لنا . وهكذا فقط يمكن تفسير السماح للمؤمنين بأن يكون لهم أربع نساء , على عكس تشدد القرآن بخصوص الايمان بالله الواحد الأوحد. وأظن أن كل هذا يبرهن على أن الناطق بالقرآن لم ينكر عن سوء قصد أن المسيح قد تجسد, وهو لم يسمح بتعدد الزوجات عن تخاذل ( كما هو الأمر في التوراة) . إن فهمه للجسد منعه! ‍ إن رفضه الشديد لولادة ابن الله من مريم – وهو ما لم يستطع تصوره أن يتمَّ حمْلٌ بدون الفعل الشهواني الذي هو رجسٌ- يبين لنا الاشمئزاز من الفكرة أن الله يمكنه أن يلامس شيئاً دنساً كهذا , مثل الجسد . حتى النساطرة من بين المسيحين في سوريا رفضوا أيضاً تفكيراً مشابهاً وللسبب عينه وحرَّموا أن تدعى مريم والدة الإله . مع هذا التقدير للجسد يرتبط أيضاً ارتباطاً وثيقاً أنه تعذر على الناطق بالقرآن القبول بفكرة أن الله يتنازل بارادته ويقبل بإهانة الشخص الثاني من الثالوث، هذا ما لم يكن باستطاعته تصوره .

 

الرسالة الى العبرانيين تأكيد لموقف القرآن قبل أوانه

 

إذا فكرنا جيداً بما قلناه حتى الآن وقيمناه نجد أن الرسالة الى العبرانيين هي الجواب المفتاح على موقف القرآن الأخير . إن كاتب الرسالة إلى العبرانيين ينتمي كما يُظَن إلى أولئك الكهنة الذين اعتنق عدد منهم الإيمان المسيحي بعد رجم القديس استفانوس بالحجارة ( أعمال الرسل :6/7) . بحكم الوظيفة كان عنده إلمام واسع بالذبيحة .

 

تعود الرسالة إلى العبرانيين بادىء الأمر (وهنا تتوافق مع القرآن ) إلى الآية في سفر الخروج التي تقول إن موسى أعطى التوصيات بخصوص الهيكل والذبيحة " على المثال الذي عرض عليه في الجبل ( جبل سيناء) ." (خروج :25/40). هذه التوصيات تتوافق إذاً مع ما يجري في أورشليم السماوية والهيكل السماوي خارجاً عن الزمن . غير أن موسى فهم الذبيحة من الناحية التشريعية . يوضح الكتاب المقدس الذبيحة من خلال ذبيحة ملكيصادق الذي قدَّم له إبراهيم العشر والذي قدم بالمقابل خمراً وخبزاً . بذلك فإن الوصية التي أُعطيت قبلاً (أي قبل المسيح  , في الشريعة ) قد ألغيت" , "لأن الشريعة لم تقد إلى الكمال (المسلمات !)".إن ذبيحة ملكيصادق أيقظت فينا بالأحرى أملاً "نقترب به من الله." (عبرانيين :7/15-19). حسب الشريعة كانت تُقَدَّم قرابين وذبائح لا تستطيع أن تصير ذاك الذي يخدم الله كاملاً ." (عبرانيين:9/9). إن قول الشريعة صحيح " لآ غفران دون سفك دماء ". " دم الثيران والتيوس ورماد البقر الذي يرش على المنجسين " ( عبرانيين:9/13) لا يمكنها أن تقوم ُ بالتطهير الكامل . أما المسيح (...) دخل إلى الخيمة الأكبر والأكمل والتي لم تصنعها أيدي البشر والتي ليست على الإطلاق من هذا العالم . لم يدخل بدم ثيران وتيوس إنما بدمه الخاص مرة لا غير للأبد إلى قدس الأقداس هو الذي أحرز لنا خلاصاً له فعله للأبد ؛(...) الذي قرب ذاته لله بقدرة الروح الأزلي كذبيحة لا عيب فيها " (عبرانيين :9/12-14(. " لذلك فإنه ليس بحاجة أن يقرب ذاته كذبيحة مراراً عديدة كما يدخل رئيس الكهنة كل سنة إلى قدس الأقداس ." (عبرانيين :9/25)." كل كاهن (أي كهنة العهد القديم ) يقف كل يوم في الخدمة ومقرباً مراراً الذبيحة التي ليس بمقدورها أن تزيل الخاطايا . وأما هذا فقد قرب ذبيحة واحدة فقط عن الخطايا (...) لأنه بذبيحته الوحيدة قاد الى الكمال (المسلمات!) مرة واحدة لا غير الذي قدسه ."(عبرانيين 10/11-15).

 

 

     يتوج كاتب الرسالة إلى العبرانيين فكرة الذبيحة الكاملة هذه من خلال مقارنة المعنى الكبير للتطهير بدم الذبيحة في قدس الأقداس القائم في الهيكل الأرضي والقائم أيضأً في الهيكل السماوي. وبحسب الشريعة يسمح لرئيس الكهنة أن يدخل قدس الأقداس مرة واحدة في السنة كي يكفر بواسطة دم الذبيحة عن خطاياه وخطايا شعب العهد . كان لا بد من جهة أن تطهَّر صور الحقائق السماوية على هذا الوجه ؛ ولكن من جهة أخرى لا بد للحقائق السماوية نفسها أن تتطهر ولكن بذبيحة أكمل من التي على الأرض . في الحقيقة لم يدخل المسيح هيكلاً صنعته أيدي البشر إنما إلى السماء ."(عبرانيين:9/23-24). "قسم الله – الذي عقب الشريعة !- أقامت ابنه كحبر أعظم كاملاً (مسلماً!)  إلى الأبد ." (عبرانيين:7/28) . بما أن ذبيحة يسوع الكاملة أبدية فهذا يعني أنها تمت إلى أبد الأبدين ( باتجاه بداية الزمن ونهايته أيضاً ) . بهذا المعنى فإن كلمة "تعويض " التي تعني أكثر من كلمة "رضى " هي ضعيفة التعبير . إنه لتجديف التكلم عن ضرورة ما يسمى تبرير عمل الإله . بصلاح الله الفائق (كما سماه القديس أنسلم بحق ) أصبح كل شيء موجود كاملاً إذ أن الشر الذي يخالف مشيئة الله يندثر دائماً في المحبة الكاملة ومن خلالها .

 

 

نتيجة

 

يتأسس القرآن بطريقة لا تقبل الجدل على إيمان التوراة . القرآن بيشر بهذا الإيمان ويوضحه . لا يعرف أي عهد جديد ولكن على عكس اليهود الرابيين يهدف هذا التبشير منذ البداية وبإرادة ووعي تاميِّن الى نشر هذا الايمان على كل نسل إبراهيم وأبعد من ذلك على كل البشر . كان هذا الأمر ممكناً , والناطق بالقرآن كان على وضوح تام من هذا الأمر , لو استخدم التفريق الذي قام به موسى نفسه بين ما أوحى به الله حرفياً وما كان متروكاً للأنبياء ليعبروا عنه بطريقتهم الخاصة أو لو تم هذه الأخيرة من أجل ملائمة الشريعة التي لا يمكن مسها للأشخاص الذين يجب كسبهم . لا يمكننا إذاً الاستنتاج بأن هذا التغيير للقوانين التي تشرح القوانين الأساسية على أنها تغيير في الإيمان بالشريعة الأساسي . من جهة معينة ( بما أن هذه الشروحات غير كاملة أي لأنه يجب أن تتعدل ) يأخذ الناطق بالقرآن على عاتقه المهمة عينها التي قام بها الرسول بولس من أجل العهد الجديد . ولكن بما أن القرآن لم يدرك المعنى العميق لذبيحة يسوع الكاملة فإن إيمان التوراة هذا يعني في الحقيقة عودة إلى الزمن الذي قبل يسوع المسيح . مع كل هذا يعود الفضل للإسلام في رفع الكثير من البشر من الوثنية , الذين كانوا لا يزالون يعيشون فيها ستمائة سنة بعد موت المسيح وقيامته .الى  درجة الإيمان بالله كما رفع موسى سابقاً هذا الإيمان إلى الشريعة والدستور . مع هذا الخطوة وما أظهرت بعدها من تأثيرات على تاريخ البشرية أصبح بالنسبة للإسلام من المستحيل العودة إلى الإيمان اليهودي الذي كان يعتبر إيمان التوراة ملكه الخاص . بهذا المعنى فإن إيمان القرآن يقف في خلاف دائم مع اليهودية . ومنذ أن سقط اليهود بأغلبتهم مع الصهيونية من الإيمان الذي كان لموسى (ملاحظة : كما تنبأ الناطق بالقرآن ) أصبحوا – ويا للمفارقة – مثل الملحدين أمام إيمان التوراة الذي يستمر في الإسلام .          

 

 

          من جهة أخرى – وهذا أمريدعو الى الاستغراب- إن الصراع بين المسيحية والإسلام قد بدأ للتوّ . إنه غير معقول ولكنه تاريخياً حقيقي أنه رغم 1300 عامٍ من المواجهة من أجل فهم واف للقرآن من قبل المسيحين إلا أنه منذ 150 عاماً فقط يحاول المسيحيون جهدهم , ويبدو ارتباكهم في فهم الشروحات المحمدية أكبر بكثير مما كان يتوقع بدءاً . يجب أن تجري المباحثة والنقاش بين الإيمان المسيحي والإسلام – وهذا ليس مقصوراً على المستوى العلمي – اليوم بعد أن انتهت القطيعة بين الغرب والشرق بواسطة الأتراك , يجب أن يتم ذلك في زمن أفسح فيه المسيحيون المجال للأشكال الجديدة من الوثنية أن تسلبهم إيمانهم الفائق كل إيمان آخر ليصبح غريباً على الفهم وغير ملائم للحياة . والشرط لذلك هو أن يعود المسيحيون من جديد إلى عمق إيمانهم , الإيمان الكاثوليكي ( بمعنى المجمع الأول ) وأن يسبروا أعماقه ويعيشوا بموجبه . وبالمقابل يجب على الإسلام أن يتعلم كيف يبرر لأيمانه أمام "النقد" الذي توجهه المعرفة العصرية المتلبسة بالعلم والملحدة فيتجاوب من منطلق فهم جديد للاسلام مع الطرح المسيحي بشكل كافٍ . ذاك أن الهبوط بمستوى النقاش الى درجات البحث عن قيمة مواقف ثانوية في كلٍ من الدينين لن يأتي بأية نتيجة؛ والأسوأ من ذلك بكثير أن يُسيء طرفٌ الظنَّ بالطرف الآخر منذ البداية ودون أي سبب شرعي لذلك . يجب أن يُفسَح المجال للمحتوى نفسه كي يعبِّر بأفضل وأسمى درجات الفهم عن ذاته.



 * يترجم المؤلف كلمة "مولانا" بلغة  "الذي اختتننا

  [2]حتى فكرة الدستور افتبسها موسى على الأقل جزئياً- من يترو (راجع: خروج 18/13-27).

[3]   اليهود هنا بمقابل الإسرائليين

[4]    توجد آثار تشير إلى أن مكة كانت مستوطنة آرامية.  راجع لوكسمبورغ ، كريستوف: "الصيغة السريانية-الآرامية لقراءة القرآن"،   برلين 2000.